السؤال : من هو الذي عنده علم من الكتاب في قوله تعالي : قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك
قال الله تعالى فى كتابه الكريم بسورة النمل :
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِى أَمِينٌ * قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى كَرِيمٌ
النمل : 38 – 40
تفسير الشيخ الجليل محمد متولى الشعراوى :
تكلم العلماء في هذه الآية: أولاً: قالوا { ٱلْكِتَابِ } [النمل: 40] يُراد به اللوح المحفوظ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسراراً من اللوح المحفوظ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا: هو آصف بن برخيا، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله على أسرار الكون.
وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت
{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ }
[النمل: 39] قال هو: { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل: 40] لأنه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية، وليس شَرْطاً في المِلك أنْ يعرف كل شيء، وإلا لَقُلْنا للمِلك: تَعَال أصلح لنا دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً: فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فمثلاً حين تُكلِّف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما، فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في مكانه، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل المواصلات، ففرْق بين السفر بالسيارة، والسفر بالطائرة، والسفر بالصاروخ مثلاً.
وهذه تكلّمنا عنها في قصة ” الإسراء والمعراج ” فقد أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السرعة؛ لأن الله تعالى أَسْرى به، ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصوُّر البشر.
وما دام الزمن يتناسب مع القوة، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله، إنما إلى الله، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلاً، فإنْ قلتَ: فلماذا استغرقتْ الرحلة ليلةَ وأخذت وقتاً؟ نقول: لأنه صلى الله عليه وسلم مرَّ بأشياء، ورأى أشياء، وقال، وسأل، وسمع، فهو الذي شغل هذا الوقت، أمّا الإسراء نفسه فلا زمنَ له.
لذلك قبل أن يخبرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذه الحادثة العجيبة قال:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ }
[الإسراء: 1] أي: نزِّهه عن مشابهة غيره، كذلك مسألة نَقْل العرش في طرْفة عين لا بُدَّ أن مَنْ فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه، فنقله بكُنْ التي لا تحتاج وقتاً ولا قوة، وما دام الأمر بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا: آمين.وفي قوله للجن: { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل: 40] تحدٍّ لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإنْ أراد الله منحني من القوة ما أتفوّق عليك به، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي.
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن:
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ }
[سبأ: 13].
وليعلموا أنهم جهلاء، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.