هل تخيلت يومًا أن تعيش حياتك كلها وأنت تدعو الناس إلى الحق، فلا تجد من يستجيب لك إلا قلة قليلة؟ كيف سيكون شعورك إن استمر ذلك مئات السنين؟ قد يبدو المشهد أشبه بحلم أو أسطورة، لكنه في الحقيقة قصة نبي من أعظم أنبياء الله، قصة نوح عليه السلام كما يرويها لنا القرآن الكريم، حيث تلتقي الصبر بالأمل، والابتلاء باليقين، والدموع بالنجاة.

كان نوح إنسانًا مثلنا، يرى الظلم من حوله، ويشعر بالثقل في قلبه عندما يرى قومه يعبدون أصنامًا صنعوها بأيديهم ثم انحنوا لها. تخيل أن ترى أصدقاءك وجيرانك يضعون ثقتهم في حجر صامت، بينما ينسون ربهم الذي خلقهم ورزقهم! في تلك اللحظة أشرق في قلب نوح نور الرسالة، وأمره الله أن يقف في وجه هذه الموجة العاتية من الضلال. لم يكن الأمر سهلًا، بل كان رحلة طويلة امتدت قرونًا، حملت بين طياتها كل معاني الصبر والثبات.

القرآن يصف لنا المشهد كأننا نعيشه. كان نوح يذهب إلى قومه في كل وقت: صباحًا ومساءً، سرًا وجهارًا، لينصحهم ويذكرهم بالله. لكنه كان يواجه صدودًا غريبًا. كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم، كأنهم يخافون أن تصل إليهم كلمة الحق، كأن مجرد صوت نبي الله يهددهم أكثر من الأصنام التي صنعوها بأنفسهم. ومع ذلك، لم يفقد الأمل. كان يقول: “إني دعوت قومي ليلًا ونهارًا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا”.

تخيل أن تبذل حياتك كلها في مشروع واحد، هو إنقاذ الناس، ثم ترى أن النتائج ضعيفة، بل تكاد تكون معدومة. كم من مرة نشعر نحن بالإحباط إذا لم يتحقق هدف صغير بعد أسبوع أو شهر، فما بالك بمئات السنين؟ هنا تتجلى عظمة نوح في القرآن، فهو لم يكن مجرد رجل يواجه عقبة، بل كان رسولًا يصارع الزمن والإصرار البشري على الباطل.

ولم يقف قومه عند الرفض فقط، بل وصل الأمر إلى الاستهزاء والسخرية. كانوا يسخرون منه علنًا، يستهزئون بدعوته ويصفونه بالمجنون. ومع ذلك، لم يرد عليهم بغلظة أو كراهية، بل ظل ثابتًا، يواصل الحديث عن رحمة الله وعن مغفرته، ويعدهم بالأمان إن عادوا إلى خالقهم. هذا الصبر العجيب هو ما يجعلنا عندما نقرأ قصته نشعر أن الأمر ليس مجرد تاريخ، بل رسالة مباشرة إلينا في حياتنا اليومية.

ثم جاءت اللحظة الفاصلة، اللحظة التي تتغير فيها الموازين. أوحى الله إلى نوح أن يصنع سفينة. تخيل رجلًا في أرض لا بحر فيها ولا أنهار عميقة، يبدأ بصنع سفينة ضخمة من الخشب، تحت حرارة الشمس، وبين أعين قومه الذين لا يتركون فرصة إلا ويسخرون منه: “أتُصنع سفينة في صحراء؟”. كان المشهد بالنسبة لهم كوميديا ساخرة، لكن بالنسبة لنوح كان يقينًا بوعد الله.

القرآن يرسم لنا صورة مهيبة: “ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه”. كانوا يضحكون، وهو يطرق الخشب بإيمان، يسمع أصواتهم لكنه يسمع صوت وعد الله أقوى. هذه السفينة لم تكن مجرد وسيلة نجاة من الماء، بل كانت رمزًا لنجاة الفكرة، لثبات المؤمن في مواجهة الطوفان مهما بدا عظيمًا.

ثم جاء الطوفان. بدأ الماء يتفجر من كل مكان: من السماء ومن الأرض. ارتفع الماء شيئًا فشيئًا حتى صار يغطي البيوت والجبال. الناس الذين كانوا يضحكون بالأمس صاروا يصرخون اليوم طلبًا للنجاة. وهنا يظهر المشهد الأكثر ألمًا وإنسانية: ابن نوح، دمه ولحمه، كان بين الذين كفروا. ناداه نوح وهو على السفينة: “يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين”. لكن الابن أصرّ، وغرقت صرخته في أمواج البحر. لحظة موجعة، تكشف أن الهداية لا تُفرض حتى على أقرب الناس، وأن الإيمان قرار شخصي لا يورث بالدم.

انتهى الطوفان، واستوت السفينة على الجودي. مشهد النهاية لم يكن فقط نجاة المؤمنين، بل بداية جديدة للبشرية، كأن الأرض ولدت من جديد. وهنا يتضح أن قصة نوح في القرآن ليست فقط حكاية قديمة، بل هي مرآة لحياتنا. نحن أيضًا نعيش طوفانات، لكنها ليست دائمًا ماءً. قد تكون طوفانات من الشهوات، من الضغوط، من الفتن والإحباطات. والسفينة اليوم هي إيمانك، قيمك، ثباتك على الحق مهما كثر الساخرون.

حين نتأمل قصة نوح ندرك أن الصبر ليس مجرد فضيلة ثانوية، بل هو مفتاح النجاة. ندرك أن الأمل يجب أن يبقى حيًا حتى لو خذلك الجميع. ونتعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولو بعد حين. القرآن يعرض لنا نوحًا رسولًا ملهمًا، ليقول لنا: الطريق قد يكون طويلًا، لكن النهاية حتمًا نور ونجاة.

فلنسأل أنفسنا بصدق: ما السفينة التي نصنعها اليوم في حياتنا؟ هل نبنيها من طاعة الله وقيم الخير؟ أم نتركها فارغة ونغرق مع أول موجة؟

الخاتمة هنا دعوة لك أن تبدأ ببناء سفينتك الخاصة. لا تنتظر الطوفان حتى يأتي، بل استعد من الآن. اجعل من صبرك وأملك وعملك الصالح ألواحًا متينة تقاوم بها أمواج الحياة. وإذا شعرت باليأس أو ثقل الطريق، فتذكر نوحًا، وكيف ظل مئات السنين ثابتًا على دعوته، حتى جاء النصر في النهاية. ولتجد مزيدًا من القصص الملهمة والمقالات العميقة التي تساعدك على بناء حياتك بروح جديدة، يمكنك زيارة موقعي tslia.com
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *