يُعد التسامح في الإسلام من أعظم القيم التي رسّخها الدين الحنيف، وجعلها جزءًا أصيلًا من حياة المسلم، حيث يتجاوز معناه حدود الصفح عن الخطأ ليشمل التعايش، وقبول الآخر، ونبذ العنف، والسعي لتحقيق السلام الداخلي والخارجي. ولعلّ المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يجد أن التسامح ليس مجرد خُلُق ثانوي، بل هو ركيزة أساسية في بناء المجتمعات، ووسيلة لنشر المحبة والتعاون بين الناس على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم. هذه القيمة العظيمة ليست شعارًا يُرفع فقط، بل هي منهج حياة يترجم إلى مواقف وأفعال تثمر استقرارًا وسعادة على المستوى الفردي والجماعي.
إن أول ما يلفت النظر أن الإسلام قد قدّم نموذجًا فريدًا للتسامح، يبدأ من علاقة الإنسان بربه، حيث فتح أبواب التوبة مهما عظمت الذنوب، ثم يمتد إلى علاقة المسلم بنفسه، فيغرس فيه الرضا والطمأنينة، وصولًا إلى علاقته بالآخرين مهما كانت دياناتهم أو أعراقهم، ليعيش الجميع في إطار من الرحمة والعدل. فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، وهي دعوة صريحة للتسامح واللين في التعامل حتى مع من يسيء.
وقد جسّد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أسمى صور التسامح في سيرته العطرة. فقد سامح أهل مكة بعد سنوات من الأذى والتكذيب والطرد، وقال قولته الشهيرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وهي رسالة خالدة بأن العفو عند المقدرة هو أعظم انتصار أخلاقي يمكن للإنسان أن يحققه. كذلك كان صلى الله عليه وسلم يعفو عن أصحابه إذا أخطؤوا، ويعامل جيرانه من غير المسلمين بالبر والإحسان، في ترسيخ واضح لفكرة أن التسامح لا يتجزأ ولا يُقصر على فئة معينة.
التسامح في الإسلام ليس ضعفًا أو تنازلًا عن الحقوق، بل هو قوة روحية وأخلاقية تعكس ثقة الإنسان بنفسه وإيمانه بربه. فالمسامح لا يفرّط في حقه، ولكنه يوازن بين حقه الشخصي ومصلحة المجتمع، فيقدّم الصفح حيث يكون الصفح أجدى من الانتقام. وهنا يتجلّى البُعد الحضاري في التسامح، إذ إنه يسهم في تهدئة النفوس، وتقليل النزاعات، وتحويل الخصومة إلى تعاون.
وعلى المستوى الاجتماعي، فإن انتشار التسامح بين الأفراد يخلق بيئة يسودها الاحترام المتبادل، ويقلّل من معدلات العنف والكراهية. الأسر التي تتبنى مبدأ التسامح تنشأ فيها أجيال أكثر توازنًا نفسيًا، وأقدر على مواجهة التحديات بروح إيجابية. كما أن المجتمعات التي تعلي من قيمة التسامح تكون أكثر قدرة على التطور والازدهار، لأن أفرادها يركزون على البناء والعمل المشترك بدل الانشغال بالعداوات.
أما في جانب التعامل مع أتباع الديانات الأخرى، فقد قدّم الإسلام نموذجًا حضاريًا رائدًا. إذ أقرّ لهم حريتهم الدينية، وحفظ دماءهم وأموالهم، واعتبر إيذاءهم ظلمًا وعدوانًا. ولعلّ ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في “العهدة العمرية” خير شاهد على ذلك، حيث ضمن لأهل القدس أمنهم وكنائسهم، في موقف يثبت أن التسامح في الإسلام ليس نظريات مجردة، بل ممارسة عملية واقعية.
التسامح أيضًا ينعكس على حياة الفرد الداخلية، فهو يحرّره من قيود الحقد والضغينة التي تفسد القلب وتُتعب النفس. الإنسان المتسامح يعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا، لأنه لا يحمل في داخله مشاعر سلبية تثقل كاهله. كما أن التسامح يعزز الصحة النفسية والجسدية، إذ أثبتت الدراسات الحديثة أن الحقد والعداوة يرفعان معدلات التوتر والأمراض، بينما التسامح يحقق السكينة ويقوي الروابط الاجتماعية.
وفي عصرنا الحالي، نحن في أمس الحاجة إلى استعادة روح التسامح التي دعا إليها الإسلام، خاصة في ظل تزايد النزاعات والحروب والخلافات الفكرية والدينية. إن إحياء هذه القيمة لا يعني فقط تطبيقها على المستوى الفردي، بل أيضًا في السياسات العامة، والتعليم، والإعلام، ليصبح التسامح ثقافة سائدة تعيد للمجتمعات إنسانيتها.
وإذا كان البعض يظن أن التسامح مجرد مثالية يصعب تطبيقها، فإن الحقيقة أن تاريخ المسلمين زاخر بالنماذج التي تثبت أن التسامح ممكن ومثمر. من الأندلس حيث عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في وئام لقرون طويلة، إلى بغداد ودمشق والقاهرة التي كانت مراكز حضارية جمعت شعوبًا متعددة على أساس من العدل والتعايش.
التسامح في الإسلام ليس فقط حاجة أخلاقية، بل هو ضرورة حضارية لبقاء الإنسانية. إنه المفتاح لتجاوز الانقسامات، وبناء جسور الثقة، وصناعة عالم أفضل. فإذا ما تحلّى كل فرد بروح التسامح، واستشعر عظمته كقيمة ربانية، فإن ثمار ذلك ستنعكس على الأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء.
وفي الختام، يبقى التسامح في الإسلام رسالة خالدة تدعو إلى الحب بدل الكراهية، والسلام بدل الحرب، والوحدة بدل التفرقة. هو نور يهدي القلوب، ودواء يشفي النفوس، وقيمة تليق بأمة أراد الله لها أن تكون رحمة للعالمين. فلنحرص جميعًا على نشر هذه القيمة العظيمة في حياتنا اليومية، ولنجعلها عنوانًا لعلاقاتنا الإنسانية، حتى نحقق المعنى الحقيقي لعبادة الله من خلال الرحمة بالناس.
زوروا موقعنا tslia.com واكتشفوا المزيد من المقالات الهادفة التي تساعدكم على بناء فكر متوازن وحياة مليئة بالسلام والتفاؤل.