في زمن كثرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعت طرق التعبير، أصبح الكلام أسرع وسيلة للتأثير وأقوى أداة لبناء العلاقات أو هدمها. من هنا يبرز خطر الغيبة والنميمة، فهما ليستا مجرد كلمات عابرة تُقال في غياب الآخرين، بل هما آفتان عظيمتان تهدمان الأخلاق وتفسدان القلوب وتقطع أوصال المحبة بين الناس. حكم الغيبة والنميمة في الإسلام واضح وصريح، فقد نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهما نهياً قاطعاً، وعدّهما من كبائر الذنوب التي تستوجب العقاب وتعرض صاحبها لسخط الله تعالى. والحديث عن هذا الموضوع ليس مجرد وعظ، بل هو دعوة لإعادة النظر في سلوكياتنا اليومية التي قد تجرّنا دون أن نشعر إلى الوقوع في هذه المعاصي.

الغيبة هي أن يذكر الإنسان أخاه بما يكره في غيبته، سواء كان في شكله أو خلقه أو سلوكه أو حتى في طريقة حياته. فهي جرح لكرامة الإنسان وطعن في سمعته دون أن يكون حاضراً ليدافع عن نفسه. وقد شبّهها الله عز وجل في القرآن الكريم بأبشع صورة فقال: “أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه”، وهذه الصورة القرآنية المرعبة تكشف بشاعة الفعل وقذارته. أما النميمة فهي نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد والوقيعة، وهي أشد فتكاً من الغيبة لأنها لا تكتفي بالإساءة للآخرين في غيابهم، بل تشعل نار العداوة والبغضاء وتزرع الفتن بين الأصدقاء والأقارب.

حكم الغيبة والنميمة في الشرع لا يحتمل التأويل، فهما محرمتان حرمة قطعية، وقد أجمع العلماء على ذلك. ومن تأمل النصوص الشرعية يجد أنها لا تكتفي بالنهي، بل تكشف عن النتائج الوخيمة لهذين الذنبين على الفرد والمجتمع. فالمغتاب يعرّض نفسه للعقوبة يوم القيامة، حيث تُنقل حسناته إلى من اغتابهم، وإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم. وأي خسارة أعظم من أن يقف المرء يوم الحساب صفر اليدين بعدما قضى عمره في الطاعات؟ أما النمام فقد جاء التحذير بشأنه شديداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة نمام”، وهو وعيد قاطع يكشف خطورة هذا الذنب.

الغيبة والنميمة ليستا مجرد ذنوب فردية، بل هما أمراض اجتماعية خطيرة. فالمجتمع الذي تنتشر فيه هذه الآفات يصبح هشّاً، تنعدم فيه الثقة، وتتقطع فيه الأواصر، ويعمّه الشك والريبة. فكيف يُمكن لقلوب مليئة بالحقد والغيبة أن تتحد على خير أو أن تبني حضارة؟ لذلك شدد الإسلام على ضرورة تطهير اللسان وضبط الكلمة، لأنها المفتاح إلى بناء مجتمع متماسك يسوده الود والرحمة.

من الناحية النفسية، يظن بعض الناس أن الغيبة والنميمة تُشبع فضولهم أو تمنحهم شعوراً بالتفوق على الآخرين، لكن الحقيقة أن من يعتاد عليهما يعيش في صراع داخلي ويعاني من ضعف في الثقة بنفسه. فالتلذذ بذكر عيوب الناس دليل على فراغ داخلي وعجز عن إصلاح الذات. بينما من يعتاد الصمت عن عيوب الآخرين والانشغال بإصلاح نفسه يعيش حياة أكثر صفاء وسكينة، ويكسب احترام الناس ومحبتهم.

وللخلاص من هذه العادة القبيحة، على المسلم أن يستحضر مراقبة الله في كل كلمة يتفوه بها، وأن يتذكر أن اللسان أمانة سيحاسب عليها. ومن الوسائل النافعة أن يشغل المرء نفسه بذكر الله وقراءة القرآن، وأن يتجنب المجالس التي يكثر فيها اللغو والغيبة. وإذا اضطر للاستماع إلى الغيبة فليغيّر الموضوع أو ينصح بلطف، فإن عجز فليغادر المجلس، لئلا يكون شريكاً في الإثم. كما أن على الإنسان أن يستحضر دوماً أن ذكر عيوب الآخرين لن يزيده شرفاً، بل سينقص من قدره ويهدر حسناته.

إن الإسلام لم يترك باب الغيبة والنميمة مفتوحاً، بل شرع التوبة الصادقة لمن وقع فيهما. والتوبة تكون بالإقلاع عن الذنب والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة، مع الاستغفار والدعاء لمن اغتبناه. أما إذا وصلت الغيبة أو النميمة إلى المظلوم وأساءت له، فإن من تمام التوبة الاعتذار منه وطلب مسامحته. هكذا يُعيد الإسلام التوازن للنفوس ويضمن استقرار العلاقات بين الناس.

ومن الحكم البليغة في النهي عن الغيبة والنميمة أن اللسان هو أسرع وسيلة لنقل الخير والشر معاً، فمن استعمله في الخير صار مباركاً في الدنيا والآخرة، ومن استعمله في الشر صار وبالاً عليه وعلى مجتمعه. ولعل أعظم ما يُعين المسلم على حفظ لسانه أن يتذكر أن كل كلمة تُكتب في صحيفة أعماله، وأنه سيقف يوماً بين يدي الله يُسأل عن كل لفظ خرج من فيه.

إن علاج الغيبة والنميمة يبدأ من داخل كل فرد، حين يعقد العزم على أن يكون لسانه طاهراً لا يذكر إلا الخير. وإذا نجح الأفراد في ذلك، انعكس الأمر على المجتمع بأسره، فأصبح مجتمعاً نقياً تسوده المحبة وتختفي منه أسباب العداوة. وهكذا أراد الإسلام للأمة أن تكون، جسداً واحداً متماسكاً لا يتفكك أمام الفتن والشهوات.

وفي النهاية، يمكن القول إن حكم الغيبة والنميمة في الإسلام هو التحريم القطعي، وأن خطورتهما ليست فقط في العقوبة الأخروية، بل أيضاً في نتائجهما المدمرة على العلاقات الإنسانية والمجتمعات. ومن أراد أن ينال رضا الله ويدخل في رحمته، فعليه أن يحفظ لسانه ويبتعد عن مواطن السوء، وليتذكر أن أعظم الكرامة أن تشغل نفسك بإصلاح ذاتك بدلاً من تتبع عيوب الآخرين. فليكن شعارنا جميعاً: “لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ، فكلك عورات وللناس ألسن”.

زوروا موقعنا tslia.com لتجدوا المزيد من المقالات الهادفة التي ترتقي بالفكر وتبني القيم، وكونوا دائماً جزءاً من مجتمع يسعى للخير والنقاء.

هاشتاق #حكمالغيبةوالنميمة #آفاتاللسان #المجتمعالمسلم #تزكيةالنفس #الغيبة #النميمة #الكلمةالطيبة #tslia

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *