الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في سورة المدثر (1)
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾
قال الله تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ [المدثر: 11 – 27].
أولًا: سبب نزولها:
لقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في شأن الوليد بن المغيرة المخزومي، وبينهم ما يشبه الاتفاق فقالوا ما ملخصه: إن المشركين عندما اجتمعوا في دار الندوة، ليتشاوروا فيما يقولونه في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي شأن القرآن الكريم – قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج – فقال بعضهم: هو شاعر، وقال آخرون، بل هو كاهن، أو مجنون، وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم، ثم قال بعد أن فكَّر وقدَّر: ما هذا الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا سحر يؤثَر، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته، وبين الأخ وأخيه).
وقال ابن كثير: (وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يُعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله: ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 19]، ﴿ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ [المدثر: 22]، قبض ما بين عينيه وكلح.
ثانيًا: تضمنت الآيات بحسب ما ورد في سبب النزول اتهامَ الوليد بن المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر – وحاشاه – وأن القرآن سحر وقد كذب.
ثالثًا: جاء دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ورد هذه التهمة بطرق عديدة، وهي:
1- بدأت الآيات بتهديد القائل لهذا الافتراء على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم قبل ذكر افترائه، وهذا غاية في العناية بإبعاد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾؛ قال الآلوسي: وقوله: وَحِيدًا حال من الياء في ذَرْنِي؛ أي: ذرني وحدي معه، فأنا أغنيك في الانتقام منه.
ويحتمل أن يقال: أي: اصبر – أيها الرسول الكريم – على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان، واتركني وهذا الذي خلقته وحيدًا فريدًا لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته الكثير من النعم، فلم يشكرني على ذلك.
2- ومما حل بالوليد هذا من العقوبة بسبب مقالته تلك أن بيَّن الله تعالى ما أعده له من عذاب أليم فقال: “سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا”. والإرهاق: الإتعاب الشديد، وتحميل الإنسان ما لا يطيقه. يقال: فلان رهقه الأمر يرهقه، إذا حل به بقهر ومشقة لا قدرة له على دفعها، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرً ﴾ [الكهف: 73]، والصعود: العقبة الشديدة التي لا يصل الصاعد نحوها إلا بمشقة كبيرة، وتعب قد يؤدي إلى الهلاك والتلف، وهذه الكلمة صيغة مبالغة من الفعل صعد، كما توعَّده تعالى بالوعيد الشديد الذي سيلقاه هذا الشقي الأثيم بقوله: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾؛ أي: سأدخله سقر؛ كي يصلى حرَّها، وإنما سُميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه، قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم.
3- انتقم الله تعالى من الوليد بأن أماته شر ميتة، فقد كان من خبر وفاته ما حكاه أهل السير: أن سبب وفاته أن جرحًا كان قد أصابه بأسفل كعب رجله قبل سنين، انتقض عليه فقتله، وكان ذلك الجرح قد أصابه حين مرَّ برجل من خزاعة وهو يريش نبلًا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدَش رجله ذلك الخدش الذي كان سبب موته، ويروى أنه حين حضرته الوفاة دعا بنيه وكانوا يومئذ ثلاثة: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، فقال لهم: «أي بني، أوصيكم بثلاث، فلا تُضيعوا فيهنَّ، دمي في خزاعة فلا تطلنه، والله إني لأعلم أنهم منه براء، ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري (صداق المرأة) عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم فيه»، وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتًا ثم أمسكها عنه فلم يدخله عليها حتى مات، وقد مات الوليد بن المغيرة بعد الهجرة بثلاثة أشهر عن خمس وتسعين سنة ودفن في الحجون بمكة؛ (كذا في ابن الأثير والحلبية).