صلة الأحياء بالأموات
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيحا لقوله تعالى{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }وصلته بانتفاع الأموات بأعمال الأحياء ؟
الجواب
ذهب المعتزلة إلى أن أية قربة يهديها الحى إلى الميت لا تنفعه ، بناء على قولهم بوجوب العدل ، واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى : {أم لم ينبأ بما فى صحف موسى ” وإبراهيم الذى وفَّى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى} النجم : 36 – 41 ، أما أهل السنة فقالوا : هناك قُرَبٌ يجوز للحى أن يفعلها ويستفيد منها الميت ، بل وسع بعضهم الدائرة حتى شملت كل القرب ، قال فى شرح الكنز: إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ، صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت ، وينفعه عند أهل السنة “نيل الأوطار ج 4 ص 142 ” ودليلهم على ذلك عدم ورود نص مانع ، وكذلك الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد الميت بعمل الحى فى النوافل ، كما أفاده فى الفرائض المقضية عنه ، فضلا عن الأدلة الواردة فى بعض القرب من حيث ندب عملها ليفيد منها الميت كما سيأتى بيانه . وردوا دليل المعتزلة بما يأتى :
1 – أن الآية المذكورة منسوخة بقوله تعالى{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين } الطور: 21 ، كما قاله ابن عيسى ، فإن الكبار يلحقون بآبائهم فى الجنة وإن لم يكونوا فى منزلتهم إكراما – للآباء باجتماع الأولاد إليهم ، وضعف ابن القيم هذا القول فى كتابه “الروح ” .
2 – أن هذه الآية خاصة بشريعة موسى وإبراهيم ، وأما فى شريعتنا فالحكم بخلاف ذلك .
3 -أن عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره مخصوص بالكافر، أما المؤمن فيجوز أن ينتفع بسعى غيره من المؤمنين .
4 – أن اللام فى “للإنسان ” بمعنى “على” مثل قوله تعالى {ولهم اللعنة} أى عليهم ، والمعنى أن الإنسان ليس عليه إلا عمله ، أى أن ذلك فى العقاب ، أما الثواب فليس هناك ما يمنع انتفاع الإنسان بعمل غيره وهذه الردود يمكن أن تناقش .
5 -إن الآية تبين أنه ليس للإنسان إلا عمله استحقاقا بطريق العدل ، أما تفضلا من غيره فلا مانع من أن ينتفع به ، فالدعاء والشفاعة عمل الغير ويستفيد منه الميت . وهذا الجواب هو أصح الأجوبة، وركز عليه ابن تيمية فى فتاويه “ج 24 ص 366” حيث قال ما ملخصه :
الاتفاق على وصول ثواب العبادات المالية ، كالصدقة والعتق ، كما يصل إليه الدعاء والاستغفار . أما الأعمال البدنية كالصلاة والصيام والقراءة فاختلفوا فيها . والصواب أن الجميع يصل إليه … إلى أن قال :
وهذا مذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى .
وأما احتجاج بعضهم بأن ليس للإنسان إلا ما سعى فيقال ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأئمة أنه يصلى ويستغفر له ويدعى له ، وهذا من سعى غيره . والجواب الحق أن اللّه لم يقل إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعى نفسه وأنه قال {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فهو لا يملك إلا سعيه ، ولا يستحق غير ذلك . وأما سعى غيره فهو له ، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه ، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز . اهـ . وقد ارتضى هذا القول ابن عطية فى تفسيره .
هذا، وقد جاء فى معجم الفقه الحنبلى “ص 941 طبعة أوقاف الكويت ” أن أية قربة يفعلها الحى ويهب ثوابها للميت تنفعه إن شاء الله ، وقال ابن قدامة فى “المغنى” قال أحمد بن حنبل : الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه . لأن المسلمين يجتمعون فى كل مصر يقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا . وإن كان هذا العمل لا يعتبر حجة والإجماع عليه ليس دليلا كما رأى بعض العلماء .
وقال ابن القيم : والعبادات قسمان : “مالية ، وبدنية” وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ، ونبه بوصول ثواب الصيام على وصول سائر العبادات البدنية ، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية ، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار .
هذا هو الحكم الإجمالى فى إهداء القرب ، وإليك شيئا من التفصيل .
أخرج أبو داود وابن عباس عن أبى أسيد مالك بن ربيعة قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بنى سلمة، فقال : يا رسول الله ، هل بقى من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال “نعم الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، صلة الرحم التى لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما من بعدهما” .
(ا) الصلاة عليهما .
قال بعض الشراح : إن المراد بالصلاة عليهما فى هذا الحديث صلاة الجنازة، كما فى قوله تعالى : {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} التوبة : 184 وقيل المراد بها الدعاء ، كما فى قوله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } التوبة : 03 ا ، أى ادع الله لهم بالنماء والبركة .
ويرجح أن يراد بها هنا الدعاء لأن رواية البخارى فى “الأدب المفرد” لم يرد فيها ذكر الصلاة بل ورد (الدعاء لهما) .
والدعاء مجمع على جوازه وعلى نفع الميت به إن قبل ، ومعنى نفع الميت به حصول المدعو به إذا استجيب ، واستجابته محض فضل من الله ، ولا يسمى فى العرف ثوابا ، أما الدعاء نفسه وثوابه فهو للداعى، لأنه شفاعة أجرها للشافع ومقصودها للمشفوع له .
وأدلة مشروعية الدعاء للميت كثيرة، فصلاة الجنازة نفسها تشتمل على دعاء له ، ودعاء الولد الصالح لأبيه مما يفيده بنص الحديث الذى رواه مسلم ، وقد تقدم ، ومن آداب زيارة القبور الدعاء للأموات ، كما روى مسلم فى تعليم النبى صلى الله عليه وسلم لمن يزورون القبور أن يدعوا للأموات ، ومما جاء فيه “ونسأل الله لنا ولكم العافية” وكذلك “ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ” … وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال (استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل ) .
أما حكم الصلاة للوالدين فقد جاء فى رواية الدارقطنى “إن من البر بعد الموت أن تصلى لهما مع صلاتك ، وان تصوم لهما مع صيامك ” وتعدية فِعْلَىْ الصلاة والصيام باللام تشعر بأن ذلك فى النوافل المهداة لا فى الفروض من حيث قضاؤها ، وقد مر ذلك ولو لم يرد هذا الحديث أو لم يصح فليس هناك نص يمنع أداء الصلاة للميت وقد تقدم كلام ابن تيمية وغيره فى ذلك .
(ب) الاستغفار لهما :
الاستغفار هو دعاء بطلب المغفرة من اللّه للميت ، وأدلة الدعاء عامة تشهد لمشروعيته ، وقد دعا الأنبياء وغيرهم بالمغفرة لغيرهم ، فقال نوح {رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} نوح : 28 ، وقال إبراهيم : { ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } إبراهيم : 41 ، وروى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا لأهل بقيع الغرقد بالمغفرة وسبق طلبه من المسلمين الاستغفار لأخيهم بعد دفنه ، وروى أحمد وابن ماجه والبيهقى عن أبى هريرة بسند صحيح مرفوع أو موقوف عليه “أن الرجل لترفع درجته فى الجنة فيقول : أنَّى هذا؟ فيقال :
باستغفار ولدك لك ” .
(ج) انفاذ عهد الأبوين وصلة الرحم وإكرام الصديق :
كل ذلك قرب بدنية أو مالية يقوم بها الولد فيؤجر عليها ، ويصل أثرها للوالدين برا وإكراما وإحسانا ، وقد تقدم قول شارح الكنز فى هذه القرب وغيرها، وما جاء فى معجم الفقه الحنبلى عن ذلك .
(د) الصيام لهما :
يدل حديث الدارقطنى السابق على جواز التنفل بالصيام وإهدائه إلى الميت ، وقد شرط العلماء لذلك ولغيره من القرب أن يكون بنية سابقة أو مقارنة للفعل ، لا أن تكون النية بعد الانتهاء منها .
(هـ) الصدقة عليهما :
روى أحمد والنسائى وغيرهما أن أم سعد بن عبادة لما ماتت قال: يا رسول الله، إن أمى ماتت، أفأتصدق عنها، قال “نعم” قلت : فأى الصدقة أفضل؟ قال : “سَقىُ الماء” .
قال الحسن : فتلك سقاية آل سعد بالمدينة ، والظاهر أن هذه الصدقة ليست واجبة ، وإلا لكانت متعينة ولم يسأل سعد عن أفضلها ، وهذا الحديث وإن كان لبعض المحدثين فيه مقال فإن كثيرا من النصوص تشهد بأن الصدقة تفيد الميت سواء أكانت واجبة أم مندوبة .
قال الشوكانى : أما صدقة الولد فلا كلام فيها لثبوتها بالنص ، ولأن الولد من كسبه فلم يصل إليه عمل غيره ، بل عمله هو، مثل الصدقة الجارية والعِلْم الذى ينتفع به ودعاء الولد الصالح ، فلا حاجة لوصول صدقته إلى وصية ، أما الصدقة من الأجنبى فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابها إلى الميت ، فيوقف عليها حتى يأتى دليل يقتضى تخصيصها اهـ . لكن الرافعى والنووى من الشافعية قالا: يستوى فى الصدقة الوارث وغيره ، وحكى النووى الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها من الولد وغيره “نيل الأوطار ج 4 ص 142 ” .
هذا، ويجب أن يفهم أن ما جاء فى كلام الشوكانى وغيره من أن الذى وصل إلى الميت من ولده هو عمله وليس عمل الولد، ليس المراد به أن كل ما يعمله الولد لأبيه محسوب لأبيه وليس محسوبا للولد ، وإلا لضاع الولد وحرم ثواب عمله البدنى بالذات ، بل المراد وصول مثل ثوابه لأبيه ، كما سيأتى فى كلام العلماء عن القراءة للميت .
(و)الحج للوالدين :
مر جواز قضاء الحج عن الوالدين بعد الموت ، ولم يرد ما يمنع برهما بالحج أو، بغيره من القرب كما تقدم .
(ز) قراءة القرآن :
فى قراءة القرآن للميت خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناء على أنها عبادة بدنية لا تقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة الله وما ورد من بعض النصوص ، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلى :
1 – إذا قرئ القرآن بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مرجو ، سواء أكان معها إهداء أم لم يكن ، وذلك بحكم المجاورة ، فإن القرآن إذا تلى ، وبخاصة إذا كان فى اجتماع ، حفت القارئين الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم “ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يقرؤون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة ” ! والقرآن ذكر بل أفضل الذكر، وقد روى مسلم وغيره حديث : ” لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ” .
بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر فى جماعة ، فيحصل ذلك للشخص الواحد، روى البخارى ومسلم حديث أُسَيْد بن حُضَيْر الذى كان يقرأ القرآن فى مربده وبجواره ولده وفرسه ، وجاء فيه .
فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السُّرَج عرجت فى الجو حتى ما أراها ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم “تلك الملائكة تستمع لك ، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم ” .
على أن النص قد جاء بقراءة {يس} عند الميت ، روى أحمد وأبو داود والنسائى واللفظ له ، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : “قلب القرآن يس ، لا يقرؤها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر الله له ، اقرءوها على موتاكم ” وقد أعل الدارقطنى وابن القطان هذا الحديث ، لكن صححه ابن حبان والحاكم ، وحمله المصححون له على القراءة على الميت حال الاحتضار، بناء على حديث فى مسند الفردوس “ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون اللّه عليه ” لكن بعض العلماء قال : إن لفظ الميت عام لا يختص بالمحتضر، فلا مانع من استفادته بالقراءة عنده إذا انتهت حياته ، سواء دفن أم لم يدفن ، روى البيهقى بسند حسن أن ابن عمر استحب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن . وابن حبان الذى قال في صحيحه معلقا على حديث “اقرءوا على موتاكم يس” أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه رد المحب الطبرى ، بأن ذلك غير مسلم له وإن سلم أن يكون التلقين حال الاحتضار .
قال الشوكانى : واللفظ نص فى الأموات ، وتناوله للحى المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة “نيل الأوطار ج 4 ص 52 ” والنووى ذكر فى رياض الصالحين تحت عنوان : الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة “الباب الحادى والستون بعد المائة” ذكر أن الشافعى قال : يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن ، وإن ختموا القرآن كان حسنا ، وجاء فى المغنى لابن قدامة “ص 758” : تسن قراءة القرآن عند القبر وهبة ثوابها ، وروى أحمد أنه بدعة، ثم رجع عنه. وكره مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيث لم ترد بها السنة . لكن القرافى المالكى قال :
الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة ، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده .
2 -إذا قرئ القرآن بعيدا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء فى جواز انتفاع الميت به ، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه :
الحالة الأولى :
إذا قرىء القارىء ثم دعا الله بما قرأ أن يرحم الميت أو يغفر له ، فقد توسل القارىء إلى اللّه بعمله الصالح وهو القراءة ، ودعا للميت بالرحمة ، والدعاء له متفق على جوازه وعلى رجاء انتفاعه له إن قبله اللّه ، كمن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التى سدت فم الغار، وفى هذه الحالة لا ينبغى أن يكون هناك خلاف يذكر فى عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة .
الحالة الثانية :
إذا قرئ القارئ ثم دعا الله أن يهدى مثل ثواب قراءته إلى الميت ، قال ابن الصلاح : وينبغى الجزم بنفع : اللهم أوصل ثواب ما قرأناه ، أى مثله ، فهو المراد ، وأن يصرح به لفلان ، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعى فما له أولى ، ويجرى ذلك فى سائر الأعمال . ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعى يدعو اللّه أن يرحم الميت : والرحمة ليست ملكا له بل لله ، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهى ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها . وكذلك يجوز فى كل قربة يفعلها الحى من صلاة وصيام وصدقة ، ثم يدعو بعدها أن يوصل الله مثل ثوابها إلى الميت . وقد تقدم كلام ابن قدامة فى المغنى عن ذلك .
والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قول المجيزين : اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان .
الحالة الثالثة :
إذا نوى القارئ أن يكون الثواب ، أى مثله ، للميت ابتداء أى قبل قراءته أو فى أثنائها يصل ذلك إن شاء الله ، قال أبو عبد اللّه الأبى : إن قرأ ابتداء بنية الميت وصل إليه ثوابه ، وإن قرأ ثم وهبه لم يصل ، لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره . وقال الإمام ابن رشد فى نوازله : إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز وحصل للميت أجره ، ووصل إليه نفعه ، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة أو معها أو بعدها ، ولعله يريد ما قاله الأبى .
هذا، وانتفاع الميت بالقراءة مع الإهداء أو النية هو ما رآه المحققون من متأخرى مذهب الشافعى، وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذى للقارئ أو على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية ثواب قراءته له ، أو نيته ولم يدع له ، وقد رجح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيم ، وقد مر كلامهم فى ذلك .
قال الشوكانى “نيل الأوطار ج 4 ص 142 “المشهور من مذهب الشافعى وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن . وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعى إلى أنه يصل ، كذا ذكره النووى فى الأذكار، وفى شرح المنهاج : يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته ، وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفا على استجابة الدعاء. وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجرى فى سائر الأعمال . والظاهر أن الدعاء متفق عليه أن ينفع الميت والحى ، والقريب والبعيد ، بوصية وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرة ، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب . اهـ .
هذا، وقد قال الأبى : والقراءة للميت ، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغى إهمالها فلعل الحق الوصول ، فإن هذه الأمور مغيبة عنا ، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر هل يقع كذلك أم لا .
وأنا مع الأبى فى هذا الكلام ، فإن القراءة للميت إن لم تنفع الميت فهى للقارئ، فالمستفيد منها واحد منهما، ولا ضرر منها على أحد .
مع تغليب الرجاء فى رحمة اللّه وفضله أن يفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما .
وهذا الخلاف محله إذا قرئ القرآن بغير أجر، أما إن قرئ بأجر فالجمهور على عدم انتفاع للميت به . لأن القارئ أخذ ثوابه الدنيوى عليها فلم يبق لديه ما يهديه أو يهدى مثل ثوابه إلى الميت ، ولم تكن قراءته لوجه اللّه حتى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميت ، بل كانت القراءة للدنيا ، ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مساومة أو اتفاق سابق على الأجر أو معلوم متعارف عليه ، أما الهدية بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارئ متعلقة بها فقد يرجى من القراءة النفع للميت . والأعمال بالنيات ، وأحذر قارئ القرآن من هذا الحديث الذى رواه أحمد والطبرانى والبيهقى عن عبد الرحمن بن شبل “اقرءوا للقرآن واعملوا به ، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به }قال الهيثمى : رجال أحمد ثقات ، وقال ابن حجر فى الفتح : سنده قوى .
وفسر الأكل به بأخذ الأجرة عليه ، كما فسر بالاستجداء به والتسول .
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف فى أخذ الأجرة على قراءة القرآن :
مذهب الحنفية لا يجوز أخذها على فعل القرب والطاعات كالصلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أمورا ، منها تعليم القرآن فقالوا : بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانا ، خشية ضياعه ، ولكن بقى حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرر فى أصل المذهب من عدم الجواز، ومذهب الحنابلة لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته ، استنادا إلى حديث “اقرءوا القرآن . . . ” الذى تقدم . مذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوب شرعا كالصلاة والصيام ، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النيابة ، ومنها تعليم القرآن وقراءته ، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه ، سواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة عنه ، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت اهـ