- من الآيات الكبرى التي حدثت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم رؤية أمين الوحي جبريل مرتين في مكة والإسراء والمعراج
في هذه المنزلة الرفيعة والدرجة العالية التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم أضفى الله على عبده بالنعم، وكشف له عن حقائق وغيبيات، فكانت الآيات الكبرى، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18].
رؤية جبريل عليه السلام في صورته الملائكية الحقيقية!
كانت رؤية جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية هي إحدى آيات الله الكبرى، التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة من رحلة الإسراء والمعراج!
وقد اعتاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل عليه السلام في صورة إنسان! كان يأتيه في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ” [1].
وكان هذا إيناسًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالبشر يأنسون للبشر، ولسنا مهيئين في الدنيا أن نتعامل مع الملائكة بصورتهم الملائكية؛
ومع ذلك فقد أراد الله تعالى أن يُكْرم رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء خاص لم نسمع بحدوثه مع نبي آخر في الحياة الدنيا، وهو رؤية جبريل عليه السلام في هيئته الملائكية الحقيقية!
ثم إنه صلى الله عليه وسلم سينقل لنا الصورة التي رآها، وهذا من باب الاختبار لنا في تصديقنا له، وكذلك من باب اختبار إيماننا بقدرة رب العالمين وإبداعه في خلقه! وكان كافيًا لحدوث هذه الاختبارات أن يَرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام مرتين فقط!
ونحن لا نعرف تفاصيل كثيرة عن المرَّة الأولى، وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن هذا كان بعد أن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل أن يُريه نفسه [2]؛ ولكن المؤكَّد أن الرؤية حدثت، وهذا ما وضَّحته عائشة رضي الله عنها؛ روى مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ؟ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 8 -10]، قَالَتْ: “إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ” [3].
أما المرَّة الثانية فهي ما كان عند سدرة المنتهى في رحلتنا هذه! فقد روى أحمد عَنِ عبد الله بن مسعود، بإسناده صحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، يُنْتَثَرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ: الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ” [4].
إن هذا جانب من الاحتفال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقرة جديدة لإسعاد قلبه، وتوسيع لمدارك المسلمين؛ فيعيدوا بناء تصوراتهم عن الإله العظيم الذي يعبدونه، الذي خلق جبريل عليه السلام وبقية الملائكة العظام، والذي أبدع سدرة المنتهى، والذي أجرى الأنهار في السماء، والذي أحيا الأنبياء ليتحاوروا مع رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو ما زال في عالم الحياة! وصدق الله إذ يقول: {مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74].
إنها مرَّتان إذن!
ويمكن هنا أن نفهم آيات سورة النجم: قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 1 – 18].
فشديد القوى الذي عَلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام، والآيات في مقطعها الأول تتحدَّث عن الرؤية الأولى، التي كانت في مكة، ثم يبدأ المقطع الثاني بدايةً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، وهذا المقطع يُحَدِّثُنَا عن الرؤية الثانية، التي كانت عند سدرة المنتهى!
رؤية البيت المعمور!
مرَّ بنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، ودار حينئذٍ حوار بينهما؛ وهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور أثناء هذا اللقاء.
ومع ذلك فإن هذه المرحلة من الرحلة شهدت رؤية جديدة للبيت المعمور! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ رُفِعَ لِي البَيْتُ المَعْمُورُ”. وفي رواية مسلم: “ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ”.
إذن هي رؤيتان للبيت المعمور: الأولى بشكل عابر عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَلِّم على أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والثانية بشكل أتمَّ وأوضح بعد صعوده إلى سدرة المنتهى، وهذا واضح من السياق؛ حيث استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف العطف “ثمَّ” ليُفيد الترتيب، ويُؤَكِّد ذلك أنه سأل في المرَّة الأولى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسأل في المرَّة الثانية عن البيت المعمور؛ فهذان موقفان مختلفان.
لقد كان المعنِيُّ بالزيارة في المرَّة الأولى هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لذا كان التركيز عليه، والسؤال عنه، وكان ارتكانه على البيت المعمور واضحًا؛ لكن لم يأخذ هذا البيت العظيم حقه في التعريف؛ ومن ثَمَّ كانت الرؤية الثانية الخالصة له.
كما يبدو أن حجم هذا البيت كبير للغاية، فرُفع -أي قُرِّب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يراه، فكأنه لا يستطيع أن يراه كاملاً في نظرة واحدة، وهذا يُفسِّر سؤاله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عنه؛ مع أنه رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام مسندًا ظهره إليه، ولا شكَّ أن بيتًا يستوعب سبعين ألف ملك يوميًّا بيتٌ كبير!
تُرى ما شكل البيت المعمور؟!
الحقُّ أننا لا نعلم؛ ولكن نُدرك أنه بحدِّ ذاته من الآيات الكبرى؛ لأن الله تعالى أقسم به، وهو سبحانه لا يُقْسم إلا بعظيم؛ قال سبحانه: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 1 – 7].
كما أن البيت المعمور مكان مقدس كريم يجب على كل الملائكة أن يعبدوا الله فيه، وهذا يظهر من كلمة جبريل عليه السلام وهو يصف دخول الملائكة للبيت؛ حيث قال: “آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ”” [5].
وهذا يعني أن هذا آخر ما على الملائكة من دخول، فقد كتب الله بذلك عليهم الدخول إلى البيت المعمور مرَّة واحدة فقط، وهذا يُذَكِّرنا بفريضة الحجِّ إلى بيت الله الحرام في الدنيا؛ حيث إنه كُتِب على المستطيع مرَّة واحدة في العمر، غير أننا يمكن أن ندخل البيت الحرام مرارًا بعد حجِّنا الأول؛ بينما لا يدخل الملائكة البيت المعمور إلا مرَّة واحدة فقط! قال جبريل عليه السلام: “إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ”، وأكَّد ذلك بتأبيد عدم العودة كما جاء في رواية النسائي: “إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا” [6].
ولعلَّ التفكير في عدد الملائكة التي خلقها الله تعالى يُلقي الرهبة والخشوع والخضوع لله سبحانه، فمنذ خلق الله البيت المعمور والملائكة تدخله، ومع ذلك فهم لا ينتهون! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلهِ ..” [7].
خمر ولبن وعسل!
قُدِّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت المقدس قدحان من لبن وخمر، فاختار اللبن كما تقدَّم، والآن -في السماء السابعة- تُقدَّم له التحية للمرَّة الثانية.
ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا العطش كما ذكره في المرَّة الأولى، وكأن التحيَّة قُدِّمت هنا للإكرام والاستقبال، خاصة بعد أن شاهد المشاهد العجيبة الكثيرة؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: هِيَ الفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ” [8].
وفي رواية الإمام مسلم ذكر إناءين فقط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللهُ بِكَ أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ” [9].
وإذا كانت هناك روايات صحيحة تذكر إناءين وأخرى تذكر ثلاثة؛ فالصواب أن تكون الرواية التي تذكر الأكثر هي الأصح، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم -أو أحد الرواة- قد اختصر في رواية الإناءين.
ولقد تكرَّر اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم للبن، وتكرَّر كذلك ثناء جبريل عليه السلام عليه، فكان هذا المشهد يحمل تكريمًا وثناءً، كما يحمل البشرى لأُمَّة الإسلام أنها على الفطرة السليمة.