كان للحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسائل كثيرة لتربية وتوجيه صحابته الكرام وتقويمهم، دون أن يسبب له إحراجًا أو ضيقًا، بل كان صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله رفيق بهم حتى وإن أخطئوا حتى يعيدهم إلى الصراط المستقيم.
لنا في قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابي الجليل خوات بن جبير رضي الله عنه مثالًا على ذلك، وتلك القصة رواها عدد من كتب الحديث والسيرة، وذكرها الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة”، وكذلك أخرجه الإمام الطبراني في كتابه: “المعجم الكبير”، والإمام أبو نعيم الأصبهاني في كتابه: “معرفة الصحابة” من طريق الطبراني، وكذلك رواه اللإمام ابن الجوزي في كتابه “المنتظم”، وأيضًا الإمام “المزي” في كتابه “تهذيب الكمال”.
ولنستمع إلى الصحابي الكريم خوات بن جبير رضي الله عنه وهو يحكي عن قصته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كام قبل إسلامه شاعرًا ويحب التغزل في النساء ومجالستهن، وبعد أن أسلم – وكان لا يزال حديث عهد بالإسلام، يقول خوات: “نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ الظهران –وهو مكان اسمه اليوم وادي فاطمة شمال مكة- فقال: فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني فرجعت فاستخرجت عَيْبتي-حقيبتي- فاستخرجت منها حُلَّة –ملابس أنيقة- فلبستها وجئت فجلست معهنَّ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبته فقال لي: “أبا عبد الله ما يجلسك معهن؟!”، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هبتُه واختلطتُ -أي ارتبكت وخلطت الصواب بالخطأ-، قلت: يا رسول الله جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً -أي: ضاع جملي فأنا أبحث عنه-.
ثم مضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتبعته، فألقى إليَّ رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه –ظهره- في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره، فقال: “أبا عبد الله ما فعل شِرَاد جملك؟” ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: “السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟” فلمَّا رأيت ذلك تعجَّلتُ إلى المدينة واجتنبتُ المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلمـ فلمَّا طال ذلك تحيَّنت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمت أصلي ـ لعله وقت الضحى.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعض حُجَره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطوَّلت رجاء أن يذهب ويدعني فقال: طول أبا عبد الله ما شئت أن تطول فلستُ قائماً حتى تنصرف. فقلت في نفسي: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأبرئن صدره، فلما قال النبي: “السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟” فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم -يعني نفسه أنه لم يرتكب معصية منذ أسلم- فقال: رحمك الله.. رحمك الله.. رحمك الله. ثم لم يعد لشيء مما كان.
فكان هذا مثالًا رائعًا على كيفية تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقويمه لسلوك صاحبته الكرام رضي الله عنهم، دون أن يفضحهم أو يعنفهم أو ينفرهم من النصيحة.