تخيل نفسك وحيدًا في ساحة واسعة، والناس من حولك يسخرون منك، يستهزئون بأحلامك، ويعتبرونك مجرد شخص واهم يطارد سرابًا. ومع ذلك، تستمر، تبني حلمك خشبة بعد خشبة، وتضع فيه قلبك وروحك رغم كل الصعاب. هذا المشهد ليس من فيلم سينمائي ولا من قصة خيالية، بل هو مشهد حقيقي عاشه أحد أعظم رسل الله في القرآن: نوح عليه السلام.
حين نقرأ عن نوح في القرآن، لا نقرأ مجرد قصة عن رجل بنى سفينة ضخمة وسط الصحراء، بل نقرأ عن صراع طويل بين الإيمان والتكذيب، عن صبر ممتد لقرون، وعن انتصار الحق في النهاية، مهما بدا الطريق مليئًا بالخذلان.
نوح عليه السلام لم يكن مجرد رسول أُرسل لقومه، بل كان مثالًا خالدًا للصبر والثبات، ولعل أبرز ما يميز قصته أنه عاش تجربة الدعوة الأطول بين جميع الرسل، تسعمائة وخمسين عامًا وهو يذكّر قومه، يدعوهم ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، دون كلل أو يأس. تخيل أن تبذل هذا الجهد المضني، وتجد أن أكثر من حولك يعاندون، يرفضون، بل يستهزئون بك! أي قوة تلك التي جعلت نوحًا يواصل رغم كل ذلك؟
كان نوح يتحدث إلى قومه بلغة القلب، يبين لهم أن عبادة الله وحده هي النجاة، وأن اتباع الباطل لن يقودهم إلا للهلاك. ومع مرور السنوات، كان يرى أبناءً يولدون ويكبرون ويصيرون مثل آبائهم في الكفر. أجيال تتوالى وهو يكرر الرسالة نفسها، وكأنه يزرع بذرة في أرض قاحلة، ينتظر أن تمطر يومًا. ومع ذلك، لم يتوقف.
ثم جاء الأمر العجيب: أن يبني سفينة ضخمة في أرض لا تعرف البحر، في أرض لا ماء فيها يكفي لملء بئر صغير! كان هذا الاختبار الأعظم للإيمان. قومه كانوا يمرون به وهو ينحت الخشب ويجمع الأخشاب ويصنع المسامير، فيضحكون ويقولون: “يا نوح، هل أصبحت نجارًا بعد أن كنت نبيًا؟ أين البحر الذي ستسير فيه سفينتك؟”. لكن نوح كان يرى ما لا يرون، كان قلبه موقنًا بأن وعد الله حق، وأن الطوفان سيأتي لا محالة.
وعندما بدأ المطر يتساقط بغزارة، وتحولت الأرض اليابسة إلى سيول جارية، وعندما تفجرت العيون من باطن الأرض، أيقن الناس أن ما كانوا يسخرون منه قد أصبح واقعًا. لكن الوقت كان قد فات. ركب نوح ومن آمن معه السفينة، وكانت الرحلة الكبرى التي حملت البشرية من جديد. لقد كان الطوفان رسالة قوية مفادها أن الاستهزاء بالحق لن يوقفه، وأن العاقبة للمتقين مهما طال الأمد.
قصة نوح في القرآن ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي مرآة لحياتنا اليوم. أليس كل واحد منا يمر بموقف يشبه نوحًا في شيء ما؟ ربما تسعى نحو هدف يؤمن به قلبك، بينما يراك الآخرون مجرد حالم. ربما تبني مشروعًا، أو تسعى لتطوير نفسك، أو تدعو من حولك لفكرة تؤمن بها، فيواجهونك بالسخرية أو الرفض. هنا، تتجلى رسالة نوح: اصبر، واثبت، وواصل طريقك، فالحق يحتاج إلى صبر طويل قبل أن يزهر.
ومن أجمل مشاهد القصة وأكثرها تأثيرًا، ذلك الموقف الإنساني العاطفي حين نادى نوح ابنه أن يركب معه، لكن الابن رفض وقال إنه سيعتصم بجبل يحميه. فرد نوح بلهفة الأب: “لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم”. لكنه غرق مع الغارقين. مشهد يمزج بين الألم واليقين، بين عاطفة الأبوة وبين الإيمان بالقضاء والقدر.
هنا يتعلم القارئ درسًا قاسيًا لكنه عميق: لا ينفع النسب ولا القرابة إذا غاب الإيمان. إنها رسالة عملية لكل إنسان أن مسؤوليته الأولى هي نفسه وقلبه، ثم عمله الصالح.
إن نوحًا رسول القرآن يعطينا درسًا خالدًا: الطريق قد يكون طويلًا، مليئًا بالسخرية والتحديات، لكن من يسير فيه بإخلاص وصدق يصل في النهاية إلى بر الأمان. سفينة نوح لم تكن مجرد وسيلة نجاة من الطوفان، بل رمز لكل مؤمن يبني لنفسه سفينة من الإيمان والأمل والصبر وسط بحر متلاطم من الشكوك والإحباطات.
فكر قليلًا: ما هي سفينتك التي تبنيها اليوم؟ هل هي حلمك الذي تعمل عليه رغم قلة الدعم؟ هل هي عائلتك التي تحاول حمايتها وسط عواصف الحياة؟ أم هي روحك التي تسعى أن تملأها بالطمأنينة وسط صخب الدنيا؟ كل واحد منا بحاجة إلى سفينة، وإلى إيمان صادق يجعلها تصمد أمام أي طوفان.
وحين ننظر إلى العالم من حولنا اليوم، نجد أن قصة نوح تتكرر بأشكال مختلفة. هناك من يسخر من القيم والأخلاق، وهناك من يظن أن الحق ضعيف لأنه لا يملك المال أو النفوذ. لكن الحقيقة أن النهاية دائمًا تكون لمن يزرع الصبر ويثق بوعد الله. ربما يتأخر النصر، لكنه يأتي في اللحظة التي يظن فيها الجميع أنه مستحيل.
نوح في القرآن ليس مجرد قصة للأطفال، بل هو نموذج عملي للشباب والكبار، لكل من يسعى في طريق الحق أو يسعى لتحقيق رسالة في حياته. إذا أردت أن تستلهم من قصته، فخذ منه ثلاثة أمور: الصبر الطويل، الثقة المطلقة بالله، والعمل المستمر مهما كانت الظروف.
اليوم، وأنت تقرأ هذه الكلمات، ربما يمر في ذهنك مشروع أو فكرة أو حلم توقفت عن متابعته لأن الناس لم يؤمنوا بك. تذكر نوحًا، وارجع إلى سفينتك، وابنها من جديد. الطوفان سيأتي، والحق سيظهر، لكن الفائز هو من يستمر حتى النهاية.
لذلك، لا تجعل السخرية توقفك، ولا تجعل الإحباط يهزمك. الطريق طويل، لكن نهايته تستحق العناء. وإن أردت أن تبدأ الآن، فلتكن أول خطوة عملية هي أن تعيد النظر في أهدافك، وتختار ما هو أقرب إلى قيمك وإيمانك، ثم تبني له خطة واضحة وتلتزم بها.
ولا تنسَ أن تزور موقع tslia.com
حيث ستجد محتوى ملهمًا يساعدك على بناء سفينتك الخاصة وسط طوفان الحياة.