هل سبق لك أن تأملت في شخص ما يبدو وكأنه يمتلك جاذبية خاصة؟ لا يتحدث كثيرًا، لكنه حين يتكلم ينصت الجميع، وحين يشارك في أي موقف يشعر من حوله بالطمأنينة والثقة. قد تظن أن هذه الهالة التي تحيط به هبة فطرية، لكنها في الحقيقة نتيجة تربية اجتماعية واعية زرعت فيه منذ الصغر، فكوّنت شخصيته، وساعدته على أن يكون إنسانًا متوازنًا قادرًا على التفاعل بذكاء مع الآخرين.

التربية الاجتماعية ليست مجرد دروس يتلقاها الطفل في المدرسة أو توجيهات يسمعها من والديه، بل هي تجربة حياتية كاملة تنسج خيوطها في البيت، في الشارع، في ساحة اللعب، وفي تفاصيل التعامل اليومي مع الأصدقاء والأقارب والمعلمين. إنها البوصلة التي تحدد للإنسان كيف يعيش ضمن جماعة دون أن يفقد ذاته، وكيف يعبّر عن نفسه بصدق من غير أن يتجاوز حدود الآخرين.

لو أمعنّا النظر في مجتمعنا اليوم، لوجدنا أن كثيرًا من التحديات التي نواجهها من عزلة نفسية، تفكك أسري، أو حتى صعوبة التواصل بين الأجيال، تعود إلى خلل ما في التربية الاجتماعية. فالإنسان الذي لم يتعلم منذ طفولته فن الاستماع، أو أسلوب التعبير عن مشاعره بطريقة محترمة، أو كيفية إدارة خلافاته دون صراخ أو عناد، سيجد نفسه لاحقًا في صراع دائم مع نفسه والآخرين. والعكس صحيح؛ فالشخص الذي يتربى على التعاون، والمشاركة، وضبط النفس، يصبح قادرًا على بناء علاقات صحية ويشعر بالانتماء لمجتمعه.

التربية الاجتماعية تبدأ من أبسط المواقف وأكثرها عفوية. حين تعلم طفلك أن يقول “شكرًا” عند تلقي هدية، أو أن يعتذر بصدق حين يخطئ، فأنت لا تزرع فيه كلمات عابرة، بل تغرس في داخله قيمة احترام الآخر. وحين تسمح له بالمشاركة في قرار بسيط كاختيار لون حذائه أو ترتيب غرفته، فأنت تبني ثقته بنفسه وتدربه على المسؤولية. وفي كل مرة تمنحه فيها فرصة للتطوع، لمساعدة صديق أو مسن أو حتى إطعام قطة جائعة، فأنت توسّع قلبه على معاني الرحمة والعطاء.

التربية الاجتماعية أيضًا ترتبط بقوة بالقدوة. فالأطفال لا يتعلمون فقط بما نقول، بل بما نفعل. إذا أردنا جيلًا يعرف معنى الصدق، فلا بد أن يراه في تعاملاتنا اليومية؛ حين نلتزم بموعدنا، أو نفي بوعد قطعناه. وإذا أردنا جيلًا يحترم الآخر، فيجب أن يشاهدنا ونحن نصغي للآخرين دون مقاطعة، ونتحدث بأدب حتى مع من نختلف معهم. القدوة هنا تصبح المرآة التي يرى الطفل نفسه من خلالها، فيقلّد ما يراه، ويعيد إنتاجه في شخصيته المستقبلية.

ولعل أجمل ما في التربية الاجتماعية أنها لا تعود بالنفع على الفرد فقط، بل تمتد آثارها لتنعكس على المجتمع بأسره. فالمجتمع المتماسك ليس ذلك الذي يخلو من الخلافات، بل هو المجتمع الذي يعرف أفراده كيف يديرون خلافاتهم بوعي ورقي. هو المجتمع الذي يسوده التعاون، حيث يتكامل الناس في أدوارهم ويشعر كل واحد بأهميته. وهو أيضًا المجتمع الذي يتنفس التسامح، فلا مكان فيه للحقد أو الإقصاء. كل هذا يبدأ من التربية الاجتماعية في بيوتنا ومدارسنا وأحيائنا.

قد يتساءل البعض: هل يمكننا حقًا تغيير هذا الواقع في زمن تسيطر فيه الشاشات، وتزداد فيه العزلة الرقمية؟ نعم، بل وأكثر من أي وقت مضى نحن بحاجة إلى التربية الاجتماعية. يمكننا استثمار التكنولوجيا نفسها لتكون جسرًا للتواصل لا جدارًا للعزلة؛ بتعليم أبنائنا كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أخلاقي، وكيفية التعبير عن آرائهم بوعي ومسؤولية. يمكننا أيضًا إعادة إحياء مساحات الحوار داخل الأسرة؛ على مائدة الطعام، أو في نزهة قصيرة، أو حتى من خلال لعبة جماعية. الأهم هو أن نمنح أبناءنا شعورًا حقيقيًا بالاهتمام، وأن نعلّمهم أن الإنسان لا يكتمل إلا بالآخر.

حين ندرك أن التربية الاجتماعية هي الأساس الذي تُبنى عليه شخصية الفرد وصحة المجتمع، سننظر إليها باعتبارها استثمارًا طويل الأمد، لا يقل أهمية عن التعليم الأكاديمي أو التدريب المهني. هي ليست رفاهية، بل ضرورة، لأنها وحدها التي تمنح الإنسان المهارات التي يحتاجها ليعيش بسلام داخلي، ويحقق نجاحًا خارجيًا. فالعلم قد يفتح له أبواب العمل، لكن التربية الاجتماعية هي التي تفتح له قلوب الناس.

تخيل لو أننا جميعًا قررنا أن نبدأ من بيوتنا الصغيرة بخطوة بسيطة واحدة: أن نخصص كل يوم بضع دقائق لحوار صادق مع أبنائنا أو إخوتنا، نستمع فيه أكثر مما نتكلم، ونشجعهم فيه على التعبير بحرية، ونعلمهم أن الاختلاف لا يعني الخلاف. تخيل لو أن مدارسنا جعلت من حصص التربية الاجتماعية جزءًا أساسيًا من مناهجها، لا مجرد نشاط هامشي. عندها سنشهد جيلًا مختلفًا، جيلًا واثقًا من نفسه، متعاونًا مع غيره، وقادرًا على أن يبني مستقبلًا أكثر إنسانية.

في النهاية، التربية الاجتماعية ليست مجرد فكرة جميلة نرددها، بل هي مسؤولية مشتركة بين الأسرة، المدرسة، والمجتمع كله. وكل خطوة صغيرة في هذا الاتجاه يمكن أن تصنع فرقًا كبيرًا. فلتكن البداية اليوم، من داخل بيتك أنت. اجلس مع من تحب، افتح قلبك، درّب نفسك وأبناءك على الإصغاء، على الاعتذار، على التقدير، وسترى كيف ينعكس ذلك على حياتك كلها. وإذا أردت المزيد من الأفكار العملية والتجارب الملهمة في هذا المجال، ستجد في موقع tslia.com
مصدرًا غنيًا يساعدك على المضي في هذه الرحلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *