هل سبق أن وقفت أمام موقف جديد في حياتك ولم تجد له إجابة واضحة في كتب الفقه القديمة أو في ما سمعته من قبل؟ ربما كان ذلك متعلقًا بوسائل التواصل الاجتماعي، أو بالتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، أو حتى بمسائل طبية حساسة كالزرع والتبرع بالأعضاء. عندها يتبادر السؤال: كيف يمكن للدين أن يواكب هذه التحولات؟ هنا يظهر دور “الفتاوى المتجددة”، التي تمنحنا القدرة على الجمع بين ثبات الشريعة ومرونة الواقع.
الفتوى ليست مجرد حكم شرعي جاف، بل هي انعكاس لرحمة الله بعباده، واستجابة لمواقف متغيرة يعيشها الناس في كل زمان ومكان. منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، والفتاوى تتجدد بحسب المستجدات، فهناك دائمًا أسئلة لم تكن مطروحة من قبل. فكما أن الحياة لا تتوقف عن الحركة، فإن الاجتهاد لا يتوقف أيضًا، بل يسعى دومًا إلى إيجاد حلول شرعية تعالج قضايا العصر.
تصور مثلًا شابًا يعيش في زمننا هذا، يعمل في شركة تقنية عالمية، ويُطلب منه المشاركة في تطوير برامج تعتمد على الذكاء الاصطناعي. هذا الشاب يتساءل: هل يجوز استخدام هذه التقنية إذا كانت قد تؤدي إلى الاستغناء عن وظائف بشرية؟ أو هل يجوز تطوير تقنيات تُستخدم في مراقبة الناس وانتهاك خصوصياتهم؟ هذه الأسئلة لم تكن موجودة قبل خمسين عامًا، لكنها اليوم واقع حي، ولا بد من اجتهاد علمي شرعي يستوعبها.
الفتاوى المتجددة لا تخرج عن أصول الدين، بل تنطلق منها. الفقيه حين يصدر فتوى جديدة، فهو لا يخترع حكمًا، وإنما يبحث في النصوص الشرعية، ويستحضر مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. ومن هنا تتجلى عظمة الشريعة الإسلامية، فهي ليست نظامًا جامدًا، بل منظومة حيّة قابلة للتطبيق في مختلف العصور.
خذ مثالًا آخر من واقعنا: قضية التعاملات المالية الرقمية مثل العملات المشفرة أو المحافظ الإلكترونية. هذه أدوات لم تكن موجودة في زمن الفقهاء السابقين، لكن الناس يتعاملون بها اليوم، ويحتاجون إلى حكم شرعي يوضح لهم الحلال من الحرام. وهنا يأتي دور الفتاوى المتجددة التي تنظر في ماهية هذه الأدوات، ومقاصد استخدامها، وتأثيرها على المجتمع، ثم تقدم رأيًا مبنيًا على قواعد الفقه الإسلامي.
من أجمل ما في الفتاوى المتجددة أنها تُعيد ربط الناس بدينهم في حياتهم اليومية. فهي تجيب على أسئلة الأطباء حول العمليات الجراحية المعقدة، وعلى تساؤلات الشباب حول استخدام وسائل التواصل، وحتى على إشكالات الأسر في قضايا الطلاق والحضانة. إنها تجعل الدين حاضرًا في تفاصيل الحياة، لا منفصلًا عنها.
لكن تجدد الفتاوى لا يعني التلاعب بها أو تغيير الأحكام تبعًا للأهواء. بل هو مسؤولية عظيمة يتحملها العلماء المؤهلون، الذين يجمعون بين العلم الشرعي العميق والمعرفة الكافية بالواقع. ولهذا فإن الحاجة اليوم كبيرة لمؤسسات إفتاء معاصرة تضم لجانًا من علماء الدين والخبراء في شتى المجالات، حتى تأتي الفتوى شاملة متزنة، تراعي النصوص الشرعية والظروف الواقعية معًا.
ولعل هذا هو السبب في أن الناس ينتظرون دائمًا من العلماء أن يكونوا جسورًا بين الماضي والحاضر، بين النصوص الراسخة والتحديات الجديدة. الفتوى المتجددة تشبه الضوء الذي ينير الطريق في ليل معتم، تمنح الطمأنينة للقلب، وتوضح للإنسان كيف يتصرف وهو مطمئن إلى أنه يسير على منهج شرعي صحيح.
لقد أدركت المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ أن الفتوى أداة لبقاء الدين حيًا وفاعلًا. في زمن الفتوحات، ظهرت فتاوى جديدة تتعلق بالمعاهدات والحروب. وفي العصور اللاحقة، جاءت فتاوى تتعلق بالتجارة البحرية، أو التعامل مع غير المسلمين. واليوم، مع الثورة الرقمية والبيولوجية والاقتصادية، تبرز الحاجة نفسها إلى فتاوى متجددة قادرة على معالجة الأسئلة المطروحة.
وما يجعل هذا الموضوع ملهمًا هو أن الفتوى ليست مجرد جواب، بل هي دعوة للتفكر. حين تسمع فتوى حول مسألة جديدة، تدرك أن دينك ليس بعيدًا عن واقعك، بل حاضرًا فيه بقوة. تدرك أن الإسلام دين مرن، قادر على العيش في كل زمان، لأنه يقوم على أصول ثابتة ومقاصد كبرى لا تتغير.
هنا ندرك قيمة العلماء الذين يجتهدون من أجلنا. إنهم لا يكتبون أحكامًا جامدة، بل يبذلون وقتهم في البحث والمقارنة، يستشيرون أهل الاختصاص، يدرسون الواقع، ثم يقدمون لنا ما يوافق شرع الله. والنتيجة أن المسلم يستطيع أن يعيش مطمئنًا، وهو يعلم أن دينه لا يعارض العلم ولا يمنعه من التقدم، بل يرشده إلى الطريق الصحيح.
ومع ذلك، علينا نحن أيضًا أن نكون متفاعلين مع هذا التراث الحي. ليس المطلوب أن يكون كل واحد منا مفتيًا، ولكن أن نكون باحثين عن الحق، متابعين لما يصدر من العلماء، مدركين أن الفتوى المتجددة ليست ضعفًا في الدين، بل قوة فيه. هي بمثابة صمام الأمان الذي يمنعنا من التخبط في بحر التغيرات السريعة.
في النهاية، الفتاوى المتجددة هي دليل عملي على أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان. هي وسيلتنا لفهم ديننا في ضوء حياتنا اليومية، وللتعامل مع التحديات الجديدة بثقة وإيمان. وإن كنا نبحث عن التوازن بين الأصالة والمعاصرة، فإن الفتوى المتجددة هي المفتاح.
فلنكن أوفياء لهذا التراث، ولنحرص على الرجوع إلى العلماء الثقات، ولنفتح قلوبنا لتجديد الفقه الذي يحفظ أصولنا ويواكب عصرنا. ومن أراد أن يستزيد من هذه المعاني، ويجد محتوى يثري فكره وروحه، فليزر موقع tslia.com
حيث يجد زادًا معرفيًا يمده بالوعي والبصيرة.