هل سبق وأن توقفت أمام مسألة حياتية معاصرة، تبحث عن حكمها الشرعي فلا تجد لها ذكراً في كتب الفقه القديمة، فتشعر بالارتباك؟ تخيل طبيبًا حديث التخرج يعمل في وحدة العناية المركزة، يواجه يوميًا أسئلة لم يعرفها الفقهاء من قبل: أجهزة الإنعاش، زراعة الأعضاء، الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي. إلى من يتجه ليستنير بنور الدين وسط هذه التحولات المتسارعة؟ هنا تتجلى قيمة الفتاوى المتجددة، التي تحمل في طياتها رحمة الإسلام ومرونته وقدرته على مواكبة كل عصر.

إن الفتوى لم تكن يومًا نصًا جامدًا، بل كانت دائمًا اجتهادًا حيًا نابضًا بالوعي والفقه، يقرأ الواقع بعينٍ بصيرة ويستضيء بنور النصوص الشرعية. الفتوى مثل الجسر، يصل بين الأصول الثابتة والواقع المتغير، فلا تُترك الناس في حيرة ولا يُترك الدين في عزلة. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن مسألة إلا أجاب بما ينير الطريق، ثم جاء الصحابة والتابعون ومن بعدهم العلماء فاستمروا على هذا النهج، يفتون للناس في قضايا لم تكن تخطر على بال من قبلهم، ولكن بروح النص ومقاصد الشريعة.

اليوم نعيش في زمن تتغير فيه المعطيات بشكل مذهل: معاملات مالية رقمية، عملات مشفرة، بنوك إلكترونية، معاملات أسهم ومضاربات عالمية. كيف سيتعامل المسلم معها إن لم يجد فقيهًا مجتهدًا يجدد الفتوى ويعيد تنزيل النصوص على هذه النوازل؟ بل كيف يتصرف الشاب الذي يريد أن يتزوج عبر تطبيق إلكتروني للتعارف بضوابط شرعية؟ وكيف تفهم الأم حكم أطفال الأنابيب أو التلقيح الصناعي؟ كلها أسئلة حقيقية وواقعية، لو لم تجد فتاوى متجددة تراعي مقاصد الدين وتحفظ الأخلاق، لبقي الناس بين تيارين: إما تشدد يحرم كل جديد، أو انفلات يطلق العنان بلا ضابط.

الفتاوى المتجددة لا تعني التسيب ولا اللعب بالدين، بل تعني الوعي بأن النصوص الشرعية جاءت لتُفهم وتُطبق في كل زمان ومكان، وأن مقاصدها العظمى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، يمكن أن تُستحضر لتوجيه الناس في قضاياهم اليومية. خذ مثلًا موضوع التبرع بالأعضاء، الذي لم يكن مطروحًا قبل مئة عام، وقد اجتمع العلماء لبحثه فوجدوا فيه بابًا عظيمًا لإنقاذ الأرواح مع مراعاة حرمة الجسد، فأفتوا بجوازه وفق ضوابط دقيقة. أو موضوع التجارة الإلكترونية، التي باتت عصب الاقتصاد الحديث، فظهرت فتاوى تضبط العقود وتحمي حقوق البائع والمشتري وتمنع الغش.

الجميل أن الفتوى المتجددة تمنح المسلم طمأنينة. فبدل أن يعيش في قلق أو حيرة أمام كل جديد، يعرف أن دينه حيٌّ، قادر على الاستجابة. إنها تشبه الماء العذب الذي يسري في مجرى الحياة، يروي العطش ويحفظ التوازن. والذين يخشون من أن يؤدي التجديد إلى التلاعب بالأحكام عليهم أن يثقوا أن هناك ضوابط صارمة للاجتهاد، فلا مجال لأن يُفتى بشيء يخالف نصًا قطعيًا، وإنما هو اجتهاد في منطقة الظنيات التي تتسع للاجتهاد وتنوع الآراء.

وربما الأجمل أن هذه الفتاوى تعكس صورة حضارية للإسلام أمام العالم. حين يرى الآخرون أن الدين لا يقف حجر عثرة أمام التطور، بل يتفاعل معه ويحافظ على القيم في وسط دوامة التغير، يشعرون أن هذا الدين دين حياة، دين إنسانية ورحمة. أليس هذا هو جوهر الرسالة المحمدية التي وصفها الله بقوله: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾؟

ولكي نكون واقعيين، لا بد أن ندرك أن التجديد في الفتوى ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة حياتية. فالمسلم اليوم يعيش في عالم مفتوح، يتأثر بما حوله، يقرأ ويشاهد ويسافر ويتواصل. إن لم يجد فتوى متجددة تواكب هذا الواقع، سيلجأ إلى مصادر غير موثوقة، أو قد يترك الدين كله بحجة أنه لا يستوعب الحياة. وهنا تكمن الخطورة الكبرى، التي تجعل من مهمة العلماء والفقهاء اليوم مسؤولية تاريخية.

وليس المقصود بالتجديد أن يُفتى الناس بما يحبون فقط، بل أن تُبنى الفتوى على دراسة دقيقة للنصوص، ومعرفة عميقة بمقاصد الشريعة، وإحاطة واسعة بالواقع. فالمفتي المعاصر يحتاج أن يكون فقيهًا بالشرع، ملمًا بالعلوم الإنسانية، واعيًا بالاقتصاد والسياسة والتقنية. وكما قالوا قديمًا: من لا يعرف الناس لا يصلح أن يفتي لهم.

فلنتأمل قليلًا: أليست حياتنا اليوم مليئة بالأسئلة المعلقة؟ هل يجوز التعامل مع البطاقات الائتمانية ذات الرسوم؟ ما حكم العملات الرقمية كالبتكوين؟ ما الموقف من الذكاء الاصطناعي الذي يكتب النصوص ويرسم الصور؟ كلها قضايا حاضرة بين أيدينا، ولا يمكن أن نترك الناس يتخبطون فيها. وهنا تتجلى عظمة الفتاوى المتجددة التي تمسك بيد المسلم وتدلّه على الطريق المضيء.

إن الحاجة للفتاوى المتجددة هي في حقيقتها دعوة للعودة إلى جوهر الدين، لا للابتعاد عنه. فالدين ليس طقوسًا جامدة محصورة في زمن معين، بل هو منهج حياة يتسع لكل جديد. والتجديد ليس كسرًا للثوابت، بل هو إبراز لمرونة الشريعة وسعتها. وهذا ما يجعل المسلم يعيش مطمئنًا في قلب القرن الحادي والعشرين، دون أن يشعر بانفصال بين دينه وحياته.

وفي الختام، إذا أردنا أن نعيش إسلامًا حيًا متفاعلًا مع واقعنا، فعلينا أن نؤمن بأهمية الفتاوى المتجددة، وأن نحرص على سؤال أهل العلم الثقات، وأن نبتعد عن الفتاوى المبتورة المنتشرة في فضاء الإنترنت بلا ضوابط. علينا أن نكون نحن أيضًا جزءًا من الوعي، فننقل الأسئلة الصحيحة، ونبحث عن الجواب من المصادر الموثوقة، ونطبق ما نتعلمه في حياتنا اليومية. تذكر أن الفتوى هي أمانة، وأن تطبيقها بوعي يحقق لك السكينة والوضوح. ولمن أراد المزيد من المعرفة والتعمق، فإن موقع tslia.com سيكون نافذة غنية للباحث عن الهداية والتفقه.

فلنجعل الفتوى المتجددة بوصلة حياتنا، نستنير بها في طريقنا، وننقل بها نور الإسلام إلى واقع جديد متغير، فيبقى الدين حيًا في قلوبنا وعقولنا وأفعالنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *