من أعظم صور الرحمة التي جاء بها الإسلام، وأجلِّ الأعمال التي تقرّب العبد من ربه وتفتح له أبواب الجنة، كفالة اليتيم. فالإسلام لم يكن دينًا يقتصر على العبادات الفردية من صلاة وصيام فحسب، بل جاء ليؤسس مجتمعًا متماسكًا متعاطفًا، يشعر فيه الغني بحاجة الفقير، والقوي بمأساة الضعيف، والكبير بمسؤولية الصغير. واليتيم في المجتمع المسلم ليس شخصًا منسيًا أو مهمشًا، بل له مكانة عظيمة وحقوق محفوظة، وقد حثت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على رعايته وكفالته حتى يكون فردًا صالحًا ومنتجًا.
إن كفالة اليتيم ليست مجرد صدقة عابرة أو إحسانًا موقّتًا، بل هي مشروع حياة متكامل، يشارك فيه الكافل اليتيم في حياته اليومية ويشعره بالأمان، ويرفع عنه مرارة الحرمان. فالطفل الذي يفقد والده يعيش مشاعر قاسية قد تؤثر على نفسيته وسلوكه ومستقبله، ومن هنا تأتي عظمة كفالة اليتيم التي تمسح على رأسه وتمنحه شعورًا بالانتماء والحنان. وقد قال النبي ﷺ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، ليدلنا على القرب العظيم من مقامه الشريف يوم القيامة.
وإذا تأملنا في القرآن الكريم وجدنا أن الله تعالى قد أوصى باليتامى في مواضع عدة، وقرن الإحسان إليهم بعبادته جل وعلا، فقال سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، مما يدل على عظم مسؤولية المجتمع تجاههم. فاليتيم ليس بحاجة إلى طعام ولباس فحسب، بل بحاجة إلى عناية تربوية وتعليمية ونفسية، حتى ينشأ في بيئة كريمة تحفظ له إنسانيته وكرامته.
ومن صور كفالة اليتيم التي أوصى بها الإسلام، التكفل بمصاريفه الأساسية من مأكل وملبس وتعليم، أو احتضانه في البيت ومعاملته كأحد الأبناء، بل وحتى مجرد التصدق عليه والاهتمام بشؤونه اليومية. وقد فتح الإسلام أبوابًا متعددة لهذا العمل الجليل، ليتيح لكل مسلم المشاركة فيه بحسب استطاعته، فالبعض قد يملك المال فينفق بسخاء، والبعض الآخر قد يمنحه الله قلبًا رحيمًا فيكفي اليتيم من جانب العاطفة والحنان، وكلاهما مأجور عند الله تعالى.
إن أثر كفالة اليتيم لا يقف عند حدود اليتيم نفسه، بل يمتد إلى المجتمع بأسره، إذ تُسهم هذه الكفالة في تقوية الروابط الاجتماعية وتخفيف حدة الفقر والجريمة. فاليتم إذا تُرك بلا رعاية قد يصبح عرضة للضياع والانحراف، أما إذا وجد من يحتويه ويرشده، فإنه يكبر وهو يشعر بالمسؤولية والانتماء، فيغدو فردًا نافعًا يخدم دينه وأمته. وهنا يظهر عمق النظرة الإسلامية التي لم تكتفِ بالجانب المادي في الكفالة، بل ركزت على بناء الشخصية الإنسانية للطفل اليتيم.
ولكفالة اليتيم أبعاد روحانية عظيمة، فهي تمحو الذنوب وتلين القلوب وتجلب البركة في الرزق. وقد ورد في الأثر أن مسح رأس اليتيم يورث الرحمة في القلب، وأن الإحسان إليه سبب لمغفرة الله ورضوانه. وربما يعيش الكافل حياةً ميسورة بفضل ذلك الدعاء الصادق الذي يخرج من قلب يتيم محزون في جوف الليل، فيرفعه الله تعالى إلى السماء فلا يُرد.
والمجتمع المسلم اليوم بأمسّ الحاجة إلى إحياء هذه العبادة العظيمة، خاصة في ظل الحروب والكوارث التي خلفت آلاف الأيتام بلا مأوى ولا سند. فالمسلم الحق لا يقف موقف المتفرج، بل يسعى بما يستطيع لرعايتهم ودعمهم ماديًا ومعنويًا، سواء عبر الجمعيات الخيرية الموثوقة أو عبر مبادرات فردية. وكل خطوة يخطوها في هذا الباب هي لبنة في بناء مجتمع متراحم متماسك.
وفي عصرنا الحالي، أصبح من السهل المساهمة في كفالة اليتيم عبر منصات إلكترونية وجمعيات معتمدة تتيح التبرع الدوري أو الشهري. هذه الوسائل العصرية تسهّل على المسلم أداء واجبه دون مشقة، وتفتح له بابًا من أبواب الجنة قد لا يُغلق حتى بعد وفاته، إذا جعل هذه الكفالة صدقة جارية باسمه أو باسم أحد أحبته.
إن كفالة اليتيم ليست مجرد عمل اجتماعي، بل هي عبادة عظيمة ووسيلة للتقرب إلى الله تعالى. وهي طريق لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، حيث يشعر الكافل بالرضا الداخلي، ويقطف ثمار ذلك يوم القيامة بمرافقة النبي ﷺ في الجنة. فطوبى لمن جعل لنفسه نصيبًا من هذا الخير العظيم، ولم يترك اليتيم فريسة للألم والوحدة.
ولعل أجمل ما يمكن أن نختم به أن كفالة اليتيم هي امتحان حقيقي لإنسانية الإنسان، فبقدر ما نعطي هؤلاء الأطفال من حب ورعاية، بقدر ما نرتقي نحن في درجات القرب من الله. فلنحرص على أن نكون ممن يكرم اليتيم ويواسيه، فإن الأجر عظيم، والجزاء عند الله أعظم.
زوروا موقعنا tslia.com لتتعرفوا على المزيد من المقالات الهادفة التي تنمي الوعي وتلهم الأرواح، وكونوا دائمًا سباقين لفعل الخير.