يعدّ التسامح من أعظم القيم الإنسانية التي دعا إليها الإسلام منذ بزوغ فجره، فقد جاء الدين الحنيف رحمة للعالمين، يحمل في جوهره رسالة سلام ومحبة وعدل. ولم يكن التسامح مجرد خُلق فرعي أو قيمة ثانوية في المنظومة الإسلامية، بل هو ركن أصيل في التعامل بين البشر، إذ يقوم على قبول الآخر، واحترام الاختلاف، والعفو عند المقدرة، ونبذ الحقد والكراهية التي تعصف بالمجتمعات وتزرع فيها الفرقة والعداوة. ولأن الناس يختلفون في أديانهم وأعراقهم وألسنتهم وثقافاتهم، فقد جاء الإسلام ليؤسس قاعدة ذهبية قوامها التسامح الذي يحفظ للجميع حق العيش بكرامة، ويمنح القلوب صفاءً والأنفس راحةً.

إنّ مفهوم التسامح في الإسلام ليس مجرد لفظ أو شعار يُرفع، بل هو ممارسة عملية تتجلى في سلوك المسلم مع ربه، ومع نفسه، ومع الآخرين. فالذي يتسامح مع ربه هو من يطيعه ويستغفره إذا أخطأ، ويتسامح مع نفسه حين لا يحمّلها فوق طاقتها، ويتسامح مع الآخرين حين يعفو ويصفح، ويُحسن رغم الإساءة. ولقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هذا المبدأ في مواقف عديدة، حيث قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، وقال أيضًا: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، فجعل العفو والصفح من أعظم الخصال التي تُقرّب العبد من مغفرة الله ورحمته.

لقد جسّد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أعظم صور التسامح في حياته العملية، سواء مع أصحابه أو مع أعدائه. فعندما دخل مكة فاتحًا بعد أن لاقى من قريش صنوف العداء والتعذيب والطرد، لم ينتقم ولم يثأر، بل قال قولته الشهيرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، ليعلّم الإنسانية جمعاء أن التسامح قوة، وأن العفو عند المقدرة قمة الشجاعة لا ضعفًا كما يتوهم البعض. هذا الموقف النبوي يظل درسًا خالدًا في التاريخ يذكّر البشرية بأن بناء الحضارة لا يقوم على الدماء والثأر، بل على التسامح الذي يزرع الأمل ويعيد الألفة بين القلوب.

كما يظهر التسامح في الإسلام في تعامله مع أهل الديانات الأخرى، فقد أعطى الإسلام لأهل الكتاب حقوقًا مكفولة، وأوصى بحسن التعامل معهم ما داموا مسالمين، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾. وهذه الآية الكريمة تعكس بوضوح أن الإسلام لا يحكم على الناس من خلال عقائدهم فقط، بل من خلال سلوكهم وتعاملهم، فإذا اختاروا السلام، وجب على المسلمين أن يقابلوهم بالبرّ والعدل.

إنّ التسامح في الإسلام ليس معناه الاستسلام للظلم أو التهاون في الحقوق، بل هو قيمة متوازنة بين العدل والرحمة. فالمسلم يُطالب بالصفح والعفو، لكنه أيضًا مأمور بالدفاع عن نفسه إذا اعتُدي عليه، شريطة أن يكون ذلك دون تجاوز أو ظلم. ولعل أجمل ما يميز التسامح الإسلامي أنه يزرع الرحمة حتى في ميدان الصراع، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قتل النساء والأطفال والشيوخ في الحروب، ونهى عن التمثيل بالقتلى أو إفساد الأرض، وهذا ما لم تعرفه كثير من الأمم عبر تاريخها.

وللتسامح أثر بالغ في حياة الأفراد والمجتمعات، فهو يحرر القلب من الأحقاد، ويجعل الإنسان أكثر طمأنينة وسعادة، فالحقد يحمل صاحبه عبئًا نفسيًا يرهقه، بينما العفو يمنحه سلامًا داخليًا لا يُقدّر بثمن. والمجتمع المتسامح مجتمع متماسك، تغيب فيه العصبيات والانتقامات، ويسوده التعاون والتراحم. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التسامح ينعكس حتى على الصحة الجسدية، إذ يقلل من التوتر والقلق، ويزيد من الشعور بالرضا والسعادة.

إنّ واقعنا المعاصر يشهد صراعات وحروبًا وخلافات تتغذى على الكراهية والتعصب، ولا سبيل للخروج من هذه الدوامة إلا بالعودة إلى قيمة التسامح التي دعا إليها الإسلام. فلو التزم كل فرد بمبدأ العفو والصفح والتعامل بالرحمة، لانطفأت نار كثير من الفتن، ولساد السلام بين الناس. وليس التسامح مجرد خطاب وعظي، بل هو ممارسة عملية تبدأ من الأسرة حين يعفو الزوج عن زوجته والوالدان عن أبنائهما، وتمتد إلى المجتمع في التسامح بين الجيران والزملاء، وصولًا إلى مستوى الشعوب والدول.

إنّ التسامح في الإسلام هو روح الحياة، وهو ما يجعل من المسلم إنسانًا إيجابيًا محبًا للخير، ينشر الأمل فيمن حوله. وما أحوج عالمنا اليوم إلى تطبيق هذه القيمة الخالدة التي تُعيد للإنسان إنسانيته، وتُذكّره أن القوة الحقيقية تكمن في الرحمة، وأن السعادة الحقيقية لا تنال إلا بقلب صافي متسامح. فليكن شعارنا جميعًا أن نتسامح لنحيا، ونعفو لنرتقي، ونغرس في نفوسنا ونفوس أبنائنا هذا الخلق النبيل الذي يجسد رسالة الإسلام في أبهى صورها.

زوروا موقعنا tslia.com لتجدوا المزيد من المقالات الهادفة التي تفتح أمامكم آفاق المعرفة والإلهام، وكونوا دائمًا جزءًا من رحلة الوعي والخير.

التسامح #الإسلام #التسامحفيالإسلام #العفو #الصفح #قيم_إسلامية #التعايش #سلام #مودة #محبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *