تُعد صلة الرحم من أعظم القيم الإنسانية والشرعية التي أوصى بها الإسلام وجعلها من أبواب الخير والبركة، فهي ليست مجرد تواصل اجتماعي عابر، بل عبادة جليلة ترتبط بالإيمان وتُظهر صدق العبد في علاقته بربه وبأهله. وعندما نتأمل في حياة الناس اليوم، نجد أن الانشغال بالدنيا والركض خلف متطلبات العصر جعل الكثيرين يهملون هذه الفريضة العظيمة، فيبتعدون عن أرحامهم ويقطعون روابط القربى التي أمر الله بوصالها. ولعل ما يجعل هذا الموضوع أكثر أهمية هو أن صلة الرحم لا تعود فائدتها على الأهل وحدهم، بل على الفرد نفسه والمجتمع بأكمله، فهي سر من أسرار السعادة والرزق وطول العمر كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة.

إن صلة الرحم ليست خيارًا اجتماعيًا أو عادة حسنة فحسب، بل هي واجب شرعي أكد عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، حيث قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1]. فجعل سبحانه وتعالى تعظيم الأرحام مقرونًا بتقواه جل وعلا، ليبين مكانة هذه الصلة في حياة المسلم. كما أن النبي ﷺ أوصى بها وحث على دوامها، بل جعلها من أسباب البركة في العمر والسعة في الرزق بقوله: “من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه”.

ولا يخفى على أحد أن صلة الرحم ليست مقتصرة على الزيارة الجسدية أو اللقاءات الدورية، بل تتسع لتشمل السؤال، والدعاء، وتقديم الدعم عند الحاجة، والمواساة في المصائب، والفرح في المناسبات، والحرص على تذكير الأهل بالخير. وقد تكون أحيانًا مجرد كلمة طيبة أو مكالمة هاتفية تحمل في طياتها دفء المودة وصدق الاهتمام، فتزيل وحشة القلوب وتعيد المياه إلى مجاريها.

إن الأثر النفسي لصلة الرحم لا يُقاس، فهي تزرع الطمأنينة في النفس وتقوي الروابط الاجتماعية وتمنح الفرد شعورًا بالانتماء والدعم. ومن يحرص على التواصل مع أهله وأقاربه يجد قلبه أكثر لينًا وحياته أكثر اتزانًا، إذ كيف يعيش الإنسان سعيدًا وهو مقطوع عن جذوره؟ بل إن من أعظم صور العقوق والبعد عن الله أن يتعمد المرء قطع رحمه ويغلق بابه في وجوه أهله. فقد جاء الوعيد شديدًا في الحديث النبوي: “لا يدخل الجنة قاطع” أي قاطع للرحم، وذلك لما في القطيعة من فساد عظيم وتفكك للمجتمع وإضعاف لقيم الرحمة والتكافل.

وإذا نظرنا إلى واقع مجتمعاتنا اليوم نجد أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على الرغم من قربها الشكلي، إلا أنها في كثير من الأحيان زادت من البعد الحقيقي بين الأقارب، حيث اكتفى البعض برسالة نصية أو إعجاب في منشور واعتبر ذلك صلة رحم، بينما الصلة الحقيقية تحتاج إلى اهتمام أعمق، وتواصل أصدق، ومشاركة فعلية في الأفراح والأتراح.

صلة الرحم أيضًا تعكس شخصية المسلم الحقيقية، فهي مقياس لمحبته للخير وحرصه على أداء حق الله وحق عباده. فهي ليست مجرد روابط دم، بل ميثاق إيماني وأمانة يحملها كل فرد في عنقه. بل إن في وصل الأرحام تقوية للجبهة الداخلية للأمة، فالمجتمع الذي يسوده الترابط الأسري والتكافل العائلي يكون أكثر صلابة في مواجهة التحديات وأكثر قدرة على البناء والإصلاح.

ومن أجمل ما قيل في صلة الرحم أنها تعود بالنفع على من يصل أرحامه قبل أن تنفع الأرحام أنفسهم، فهو يحصد محبة الناس ودعاءهم، ويجد بركة في رزقه وراحة في قلبه، ويورث أبناءه وأحفاده قيمة نبيلة تحافظ على تماسك الأسرة جيلًا بعد جيل. ومن قصر في هذا الباب فقد فوت على نفسه خيرات عظيمة وحرم نفسه من فضل لا يُقدر بثمن.

إن صلة الرحم تبدأ من الأبوين ثم الأقرب فالأقرب، فبر الوالدين هو أعظم صور الصلة وأعلاها قدرًا، ثم يليهما الإخوة والأخوات، ثم الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وكل من يمتد نسبه إلى العائلة الكبيرة. وكلما زاد الإنسان تواصلاً معهم كان أقرب إلى مرضاة ربه وأكثر حظًا من بركة الدنيا والآخرة.

ومن الأمور التي ينبغي التأكيد عليها أن صلة الرحم لا تسقط مهما بدر من الأرحام من تقصير أو خلاف أو حتى إساءة، بل إن الفضل الحقيقي أن يصل الإنسان من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لأرحامه ما بدر منهم. وقد قال النبي ﷺ: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”. وهذا دليل على أن الصلة ليست مجرد تبادل مصالح، بل عبادة صادقة تتجاوز الأحقاد وتغلب روح الإيمان على نوازع النفس.

وأخيرًا، فإن صلة الرحم باب من أبواب الجنة، من حافظ عليها فاز بالرضا والبركة، ومن قطعها خسر خسرانًا مبينًا. فلنحرص جميعًا على إحيائها في حياتنا، ولنكن قدوة لأبنائنا في دوام السؤال عن الأقارب، ومساعدتهم، وزيارتهم، فبذلك تبقى أسرنا متماسكة، ومجتمعاتنا متآلفة، وننال رضا الله في الدنيا والآخرة.

زوروا موقعنا tslia.com لتجدوا المزيد من المقالات الهادفة التي تلهم قلوبكم وتضيء دروبكم، فزيارتكم دعم ورسالة أمل لمجتمع أفضل.

صلةالرحم #الأسرة #الإسلام #الأقارب #برالوالدين #صلةالأرحام #مجتمعمتماسك #قيم_إسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *