منذ قديم الزمان والإنسان يبحث عن سبل تقوي أواصر المحبة وتبني جسور المودة، فجاءت الشريعة الإسلامية الغرّاء مؤكدة على قيمة إنسانية عظيمة تحمل الخير للفرد والمجتمع، ألا وهي صلة الرحم. هذه العبادة الجليلة ليست مجرد عادة اجتماعية أو تقليد موروث، بل هي طاعة لله تعالى ووسيلة لنيل رضاه، حيث أمر بها في كتابه الكريم، وجعل قطعها من كبائر الذنوب التي تجلب سخطه. صلة الرحم لا تنحصر في زيارة الأقارب فحسب، بل تشمل كل أشكال البر والإحسان إليهم قولًا وفعلًا، ومساندتهم في أوقات الحاجة، والدعاء لهم بظهر الغيب، وبذلك تتحقق المعاني السامية التي تبني مجتمعات متماسكة يسودها الحب والتكافل.
إن المتأمل في أثر صلة الرحم يدرك أنها سر من أسرار بركة العمر ورغد العيش، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه”. هنا نلمس كيف جعل الله تعالى صلة الأقارب سببًا لزيادة الأرزاق وطول العمر، ليس بالمعنى العددي فقط، وإنما بالبركة التي تجعل حياة المرء مليئة بالخير والعطاء. كما أن صلة الرحم تقوي الروابط العائلية، وتجعل البيت المسلم كالبنيان المرصوص، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم نجد أن ضغوط الحياة العصرية والانشغال الدائم قد أضعف عند كثيرين هذا الخلق العظيم، فأصبح التواصل مقتصرًا على المناسبات أو عبر رسائل سريعة لا تحمل روح المودة. ومع ذلك، يبقى الواجب الشرعي حاضرًا، فصلة الرحم لا تسقط مهما كثرت المشاغل أو بعدت المسافات. بل على المسلم أن يجتهد في ابتكار الطرق التي تحفظ هذا الصلة، سواء بالزيارة، أو بالاتصال، أو بالمساعدة المادية والمعنوية، أو حتى برسالة ود صادقة تزرع الفرح في قلوب الأقارب.
ومن جميل ما يميز صلة الرحم أنها باب مفتوح للثواب المستمر، فهي ليست مرتبطة بوقت معين أو مكان محدد، بل يمكن للمرء أن يغتنمها في أي وقت، فينال الأجر ويقوي روابطه الأسرية في آن واحد. وقد أكد العلماء أن صلة الرحم لا تقتصر على الأقارب المحسنين فحسب، بل تشمل أيضًا من أساء منهم أو قصر، لأن الصلة الحقيقية هي أن تصل من قطعك، وتحسن إلى من أساء إليك، وتغفر لمن ظلمك، وهذه مرتبة عالية من مراتب الإيمان التي لا يبلغها إلا من امتلأ قلبه بالرحمة وحب الخير.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن صلة الرحم تخلق مجتمعًا مترابطًا يقف أفراده إلى جانب بعضهم البعض في أوقات الشدة، ويشاركون الأفراح والأحزان، مما يقلل من مظاهر التفكك الأسري والعزلة النفسية التي باتت تهدد الأسر في عصرنا الحديث. كما أنها تحمي الأبناء من الانجراف في تيارات الانحراف، إذ يشعر الطفل حين ينشأ بين أقارب متواصلين بمزيد من الأمان والدعم العاطفي. أما على الصعيد النفسي، فقد أثبتت الدراسات أن العلاقات الأسرية الدافئة تسهم في خفض معدلات القلق والاكتئاب، وتزيد من الشعور بالرضا والسعادة.
إن القطيعة من أخطر ما يمكن أن يصيب العلاقات العائلية، فهي تمزق الروابط وتزرع الكراهية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها بقوله: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”. وفي هذا وعيد شديد يدل على عظم حق الأرحام، وأن التفريط فيه جريمة روحية قبل أن تكون اجتماعية. لهذا يجب على المسلم أن يجاهد نفسه ليبقى على تواصل مع أرحامه مهما كانت الخلافات، فالتسامح والعفو سبيل لراحة القلب وطهارة النفس.
ولعل أجمل ما يميز صلة الرحم أنها تعكس صورة حقيقية للإسلام الذي يدعو إلى الرحمة والإنسانية. فحين يصل المسلم رحمه، فإنه في الحقيقة يترجم معاني الأخوة والبر التي دعا إليها الدين، ويعكس للعالم أن الإسلام دين الأسرة الواحدة التي يتكافل أفرادها ويتراحمون فيما بينهم. إنها عبادة تحقق مقاصد الشريعة في حفظ المجتمع وبناء أمة قوية متماسكة.
إن الحفاظ على صلة الرحم مسؤولية مشتركة، تبدأ من الفرد وتنطلق إلى الأسرة والمجتمع ككل. وعلى كل مسلم أن يسأل نفسه: متى آخر مرة زرت فيها قريبًا لي؟ هل هناك أحد من أهلي يحتاج إلى دعم أو مساندة ولم أقدم له العون؟ هل قلبي صافٍ تجاه أرحامي أم تحجبه الضغائن؟ الإجابة على هذه الأسئلة قد تكون بداية لتجديد العهد مع الله تعالى بحفظ هذه العبادة العظيمة.
فلنجعل من صلة الرحم عادة يومية لا تفارقنا، ولنحرص على تعليمها لأبنائنا منذ الصغر، ليكبروا وهم يدركون أن العائلة هي الحصن الأول الذي يقيهم تقلبات الزمن. وليكن شعارنا دائمًا أن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، فهي صلة بين الأرض والسماء، وسبيل لنيل الخيرات في الدنيا والآخرة.
وفي الختام، تذكر أن صلة الرحم ليست خيارًا ثانويًا يمكن تأجيله أو التهاون فيه، بل هي ركن أساسي من أركان الحياة الطيبة التي ينشدها كل إنسان. فابدأ من الآن بخطوة صغيرة، بزيارة، أو اتصال، أو كلمة طيبة، وستجد أثرها مضاعفًا في قلبك قبل أن ينعكس على أقاربك. واعلم أن كل لحظة تقضيها في وصل رحمك هي استثمار حقيقي لبركة عمرك وسعة رزقك وصفاء قلبك.
زوروا موقعنا tslia.com لتجدوا المزيد من المقالات الملهمة التي ترتقي بروحكم وتضيء حياتكم بالخير والعلم.