الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين، لذلك كانت العلاقات الإنسانية قائمة على أسس من الاحترام المتبادل وحفظ الحقوق وصون الكرامة. غير أن هذه العلاقات تتعرض أحيانًا لهزات عنيفة بسبب سلوكيات سلبية تزرع الفتنة وتبث الكراهية بين الناس، وعلى رأسها الغيبة والنميمة. وقد نهى الإسلام عنهما بشدة، وجعل عقوبتهما عظيمة، لما يترتب عليهما من فساد في القلوب وتمزيق للأواصر الاجتماعية. الحديث عن حكم الغيبة والنميمة ليس مجرد نقاش فقهي أو مسألة أخلاقية، بل هو موضوع يمس حياة كل إنسان ويؤثر في سمعته وعلاقاته ومستقبله. فهما داءان خطيران ينتشران بصمت بين الناس، وربما يظنهما البعض أمرًا هيّنًا بينما هما عند الله عظيمان.
الغيبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم هي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، سواء كان ذلك في خلقه أو شكله أو أخلاقه أو حتى في ماله وأهله. فهي لا تقتصر على الحديث عن عيوب ظاهرة، بل تشمل كل ما يكره الإنسان سماعه إذا ذكر في غيابه. أما النميمة فهي نقل الكلام بين الناس بغرض الإفساد وإشعال الفتن. قد تكون مجرد جملة صغيرة أو كلمة عابرة، لكنها تحمل في طياتها نارًا تحرق القلوب وتزرع الشحناء والعداوة.
القرآن الكريم حذّر من الغيبة والنميمة تحذيرًا شديدًا، فجعل الغيبة بمنزلة أكل لحم الميتة، وهي صورة بشعة تبين مدى قبح هذا الفعل، قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}. كما وصف سبحانه النمام بأنه همّاز مشّاء بنميم، وهو وصف يدل على الذم الشديد. أما الأحاديث النبوية فقد وردت بكثرة لتبين خطر الغيبة والنميمة، فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: “إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة”.
الأضرار الناجمة عن الغيبة والنميمة لا تقف عند حدود الدنيا فقط، بل تتجاوزها إلى الآخرة حيث يخسر العبد حسناته وتذهب أعماله سدى. فقد جاء في الحديث أن المفلس من أمته هو من يأتي يوم القيامة بحسنات من صلاة وصيام وزكاة، لكنه ظلم هذا واغتاب هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هؤلاء من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم فطُرحت عليه. أي خسارة أعظم من أن يقضي المرء عمره في طاعات ثم تُسلب منه بسبب لسانه؟
وعلى مستوى الدنيا، فإن الغيبة والنميمة تزرع الشك بين الناس وتقطع روابط الأخوة. كم من عائلات تفككت بسبب كلمة نُقلت على سبيل المزاح! وكم من صداقات تحولت إلى عداوة بسبب غيبة جلسة عابرة! بل إن النميمة قد تجرّ إلى جرائم كبرى مثل القتل أو الطلاق أو القطيعة الطويلة. ومن الناحية النفسية، فإن الشخص الذي يعتاد الغيبة يظل قلبه مظلمًا مليئًا بالضغائن، ولا يشعر بالراحة الحقيقية لأنه دائمًا مشغول بعيوب الآخرين ناسياً عيوب نفسه.
من الناحية التربوية، يعلّمنا الإسلام أن ضبط اللسان هو مفتاح النجاة. فالمؤمن الحق لا ينشغل بعيوب الناس بل يسعى لإصلاح ذاته. وإذا اضطر الإنسان أن يذكر عيبًا في شخص ما فليكن ذلك بنية النصيحة المباشرة وليس في غيابه. وحتى عند نقل الأخبار، لا بد من التثبت قبل الكلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}. هذه القاعدة العظيمة لو التزمنا بها لانتهت النميمة من جذورها.
ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، أخذت الغيبة والنميمة أشكالًا جديدة، فأصبح الناس يكتبون التعليقات المسيئة أو ينشرون الشائعات أو يسخرون من الآخرين عبر الصور والمقاطع. وربما يظن البعض أن ذلك مجرد ترفيه أو مزاح، لكنه في الحقيقة يندرج تحت الغيبة والنميمة التي حذّر منها الشرع. بل إن خطرها اليوم أعظم لأنها تنتشر بسرعة البرق وتصل إلى آلاف الناس في لحظات، فيكون الإثم مضاعفًا.
للوقاية من هذا الداء، هناك خطوات عملية يمكن اتباعها: أولها مراقبة الله تعالى واستشعار أنه يسمع ويرى كل كلمة نتفوه بها. ثانيها الانشغال بذكر الله والأعمال الصالحة حتى لا يجد اللسان وقتًا للخوض في أعراض الناس. ثالثها اختيار الصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة وتنهى عن المعصية. كما ينبغي للمجتمع أن يشيع ثقافة العفو والتسامح وأن لا ينجر وراء الشائعات.
إن حكم الغيبة والنميمة في الإسلام واضح وصريح، وهو التحريم الشديد، لما فيهما من أضرار أخلاقية واجتماعية ودينية. وواجب المسلم أن يجاهد نفسه ويبتعد عن هذه الآفات، وأن يربي أبناءه على حفظ اللسان. فالكلمة قد ترفع إنسانًا إلى أعلى الدرجات، وقد تهوي به إلى أسفل الدركات.
فلنحرص جميعًا على أن يكون لساننا رطبًا بذكر الله، وأن نستبدل الغيبة بالدعاء للغير، والنميمة بالنصيحة المباشرة. بذلك نحفظ قلوبنا من الضغائن ونبني مجتمعًا متماسكًا تسوده المحبة والرحمة.
زوروا موقعنا tslia.com لتجدوا مقالات ملهمة تساعدكم على تهذيب النفس وبناء حياة أفضل، ولا تتوقفوا عن السعي لتطوير ذاتكم وحماية قلوبكم من الآفات.