الموت هو الحقيقة الكبرى التي لا مفر منها، وهو الباب الذي يعبر منه الإنسان من دار الفناء إلى دار البقاء. ومع أن الموت بذاته لحظة فاصلة، إلا أن ما بعده أشد رهبة وأعظم خطورة، إذ يبدأ العبد مرحلة جديدة تسمى عالم البرزخ، حيث يكون إما في نعيم مقيم أو في عذاب أليم. ومن أبرز ما ورد في السنة النبوية وأحاديث الصحابة والتابعين الحديث عن عذاب القبر، وهو أمر غيبي ثابت يجب الإيمان به، إذ وردت به نصوص كثيرة لا تحتمل الإنكار أو التأويل.
ما هو عذاب القبر؟
عذاب القبر هو ما يجري للميت بعد دفنه من فتنة وسؤال ثم جزاء، سواء بالنعيم أو بالعذاب، وهو ليس مقتصرًا على القبر الترابي فحسب، بل يشمل كل من مات ولو لم يُدفن، لأن المقصود هو ما يلاقيه العبد في عالم البرزخ. قال الله تعالى:
“النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ” [غافر: 46].
فهذه الآية دليل على أن الكفار ينالون عذابًا قبل قيام الساعة.
فتنة القبر وسؤال الملكين
أول ما يواجهه العبد في قبره هو فتنة السؤال، حيث يأتيه ملكان عظيمان هما منكر ونكير، فيسألانه ثلاثة أسئلة عظيمة:
من ربك؟
ما دينك؟
ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
فأما المؤمن فيثبت الله قلبه، فيجيب: ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد ﷺ. فيقال له: نم نومة العروس، وافتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها.
أما الكافر أو المنافق، فيرتبك ويتلعثم ويقول: “هاه هاه لا أدري”، فيفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحميمها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
صور من عذاب القبر
جاء في الأحاديث أن عذاب القبر يتنوع بحسب الذنوب والمعاصي التي ارتكبها الإنسان، ومنها:
الغيبة والنميمة: فقد مر النبي ﷺ بقبرين فقال: “إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة” [البخاري ومسلم].
ترك الصلاة والاستهانة بأوامر الله: الصلاة عمود الدين، ومن ضيّعها فقد عرّض نفسه لعذاب عظيم في قبره.
الربا وأكل أموال الناس بالباطل: ورد في الرؤى التي رآها النبي ﷺ أن آكل الربا يعذب في البرزخ بما كسبت يداه.
الزنا وشرب الخمر: جاءت نصوص تبين أن هؤلاء ينالون عذابًا شديدًا، فالزناة في تنور مشتعل، وشارب الخمر يعذب بما كان يشرب.
هل عذاب القبر دائم؟
عذاب القبر قد يكون دائمًا وقد يكون مؤقتًا، فالكافر والمنافق يُعذبان إلى يوم القيامة، أما عصاة المؤمنين فقد يعذبون فترة بقدر ذنوبهم، ثم يرفع الله عنهم العذاب برحمته أو بشفاعة أو بدعاء أولادهم الصالحين أو بصدقة جارية كانوا قد تركوها.
كيف النجاة من عذاب القبر؟
النجاة من عذاب القبر تكون بالأعمال الصالحة والإيمان الصادق، ومن أبرز أسباب النجاة:
الثبات على التوحيد: قال النبي ﷺ: “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”.
الاستقامة على الصلاة: فهي أول ما يحاسب عليه العبد.
قراءة سورة الملك: ورد في الحديث أنها “المنجية من عذاب القبر”.
الاستعاذة من عذاب القبر: فقد كان النبي ﷺ يقول في صلاته: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب جهنم” [مسلم].
الصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام: فهذه الأعمال تنفع العبد بعد موته وتضيء قبره.
العبرة من عذاب القبر
الإيمان بعذاب القبر ليس لمجرد التخويف، بل هو رسالة رحمة من الله لعباده حتى يستعدوا قبل فوات الأوان. فالموت قد يأتي بغتة، والقبر أول منازل الآخرة، فإن كان خيرًا فما بعده خير، وإن كان شرًا فما بعده أشد.
إن استحضار مشهد القبر وما فيه من أهوال يجعل المؤمن أكثر حرصًا على الطاعة، وأبعد عن المعصية، فيسعى أن يكون قبره روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النار.
خاتمة
عذاب القبر حقيقة لا مراء فيها، وقد جاء ذكرها في القرآن والسنة، والإيمان بها جزء من عقيدة المسلم. لذلك علينا أن نُعِدَّ لهذا اليوم عدةً، ونجعل من حياتنا طريقًا يضيء لنا ظلمة القبر، ونكثر من العمل الصالح، والدعاء، والذكر، لعل الله يرحمنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فلنجعل من لحظات حياتنا فرصة للنجاة، ولنسعَ أن يكون قبورنا بداية النعيم لا بداية العذاب.
✦ موقعنا: tslia.com
✨ “ابدأ من الآن، فكل لحظة تقربك من الآخرة، فكن من أهل النور لا من أهل العذاب.”