مريم عليها السلام واحدة من أعظم النساء في التاريخ الإنساني، بل هي المرأة التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين، وذكرها في القرآن الكريم تكريمًا وتبجيلًا. قصتها ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي ملحمة روحية عميقة تحمل في طياتها دروسًا عن الطهر والإيمان والصبر والثبات على أوامر الله.
ميلادها ونشأتها في بيتٍ طاهر
وُلدت مريم في بيتٍ عامر بالإيمان والعبادة، فهي ابنة عمران وزوجته حنة. وقد نذرت أمها ما في بطنها محررًا لخدمة بيت الله، فلما وضعتها أنثى قالت: “رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت”، ومع ذلك قبل الله نذرها.
نشأت مريم في بيت العبادة، وكانت تحت كفالة نبي الله زكريا عليه السلام. كان يجد عندها من الرزق ما يدهشه، حتى قال لها: “يا مريم أنّى لك هذا؟” فتجيب بكل ثقة: “هو من عند الله”. فكانت مريم مثالًا للفتاة المؤمنة العفيفة الطاهرة منذ نعومة أظافرها.
العبادة والخلوة
اشتهرت مريم بكثرة عبادتها وخلواتها، فكانت تعتكف في المحراب، تصوم وتذكر الله، وتسبّح آناء الليل وأطراف النهار. وقد جعل الله لها مكانة خاصة بين الناس، إذ كانت رمزًا للعفة والطهر.
إن قصة مريم تُبرز لنا قيمة العبادة وأثرها في تزكية النفس وتقوية القلب على مواجهة الابتلاءات، فهي لم تكن مجرد فتاة عادية، بل كانت معدّة لأمر عظيم.
بشارة المَلَك
جاءت اللحظة الفاصلة في حياة مريم، حين أرسل الله إليها ملكًا على هيئة بشر سوي. ففزعت وقالت: “إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا”. فأخبرها أنه رسول من الله ليهب لها غلامًا زكيًا.
تعجبت مريم وقالت: “أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيًا؟” فجاءها الجواب الإلهي: “كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا”.
لقد كانت بشارة المَلَك بداية معجزة الميلاد، التي ستجعل من مريم وابنها عيسى عليهما السلام آيتين خالدتين على قدرة الله.
حملها واعتزالها الناس
بدأ الحمل يظهر على مريم، فواجهت ابتلاءً عظيمًا. كيف تقابل قومها بما لا يعرفون له سببًا؟ فآثرت الانعزال، وابتعدت عن أعين الناس. وعندما جاءها المخاض، اعتزلت إلى جذع نخلة وحدها، تعاني آلام الولادة والقلق مما سيقول الناس.
في تلك اللحظة الصعبة، ناداها صوت رحيم من تحتها: “ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا فكلِي واشربي وقرّي عينًا”.
كانت معجزة إلهية أن يسقط عليها الرطب في غير أوانه، وأن يجري تحتها ماء عذبًا، تسليةً لها وتخفيفًا لآلامها.
العودة إلى قومها بالوليد
حملت مريم وليدها عيسى عليه السلام وعادت إلى قومها. فكانوا في ذهول كبير، كيف تأتي بطفل وهي غير متزوجة؟! قالوا لها: “يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا”.
فأشارت إليهم أن يكلموا الطفل، فاستغربوا وقالوا: “كيف نكلم من كان في المهد صبيًا؟” لكن المعجزة الكبرى وقعت، إذ نطق عيسى عليه السلام قائلًا:
“إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا، وجعلني مباركًا أين ما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا، وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا”.
هنا انقطع لسان القوم، وتبيّن أن الأمر آية من آيات الله.
مكانة مريم في القرآن الكريم
خصّ الله مريم بذكرٍ كريم في القرآن، فسُمّيت سورة كاملة باسمها (سورة مريم). ووصفها بأنها: “اصطفاها وطهّرها واصطفاها على نساء العالمين”.
كما جعلها قدوة للنساء المؤمنات، فقال: “ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين”.
دروس وعِبر من قصة مريم
الإيمان المطلق: مريم سلّمت أمرها لله رغم عِظم الابتلاء.
العفة والطهر: كانت رمزًا للعفة، فخلّد الله ذكرها.
الصبر على الأذى: تحملت اتهامات الناس وصبرت في سبيل الله.
اليقين بقدرة الله: ميلاد عيسى معجزة تؤكد أن الله على كل شيء قدير.
العبادة والخشوع: كانت حياتها مليئة بالذكر والخلوة والدعاء.
خاتمة
إن قصة مريم عليها السلام تبقى منارة للإيمان والصبر، فهي درس خالد لكل امرأة ورجل في الثبات على الحق، والإخلاص لله، والتوكل عليه في كل الظروف.
فلتكن حياتنا انعكاسًا لهذه القيم العظيمة، ولنجعل من مريم قدوة في الطهر والإيمان.
✦ موقع tslia.com يفتح لك أبواب الإلهام والمعرفة، فكن دائمًا في رحلة بحث عن النور واليقين.