تُعدّ قصة السيدة مريم عليها السلام من أعظم القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما تحمله من معانٍ سامية ودروس إيمانية عميقة، فهي رمز الطهر والعفاف والإيمان، وأحد أعظم النماذج الإنسانية التي خلدها التاريخ. لم تكن مريم مجرد امرأة صالحة، بل كانت مثالًا للعابدة القانتة التي اصطفاها الله وكرمها بمعجزة لم يُعطِ مثلها لغيرها من النساء: أن حملت بعيسى عليه السلام دون زوج، ليكون آيةً للناس ودليلًا على قدرة الله المطلقة.
النشأة المباركة
بدأت قصة مريم قبل ميلادها، عندما نذرت أمها “حنّة” أن ما في بطنها سيكون خالصًا لعبادة الله وخدمة بيت المقدس، قالت: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ [آل عمران: 35]. ولما وضعت أنثى قالت متعجبة: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى﴾، لكنها سلّمت أمرها لله، فقبِل الله مريم قبولًا حسنًا وأنبتها نباتًا طيبًا.
نشأت مريم في بيئة إيمانية نقية، كفَلها نبي الله زكريا عليه السلام، الذي كان يجد عندها رزقًا عجيبًا لم يكن يأتيها من البشر، بل من عند الله مباشرة، فازدادت مكانتها وارتفع قدرها.
الاصطفاء الإلهي
أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى اصطفى مريم وفضلها على نساء العالمين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]. كان هذا الاصطفاء تمهيدًا لمعجزة عظيمة ستجعلها محورًا لحدث غيّر مجرى التاريخ.
بشارة المَلَك
بينما كانت مريم في محرابها تعبد الله، جاءها جبريل عليه السلام في صورة بشر، ففزعت منه، لكنها اطمأنت حين أخبرها أنه رسول من الله يبشرها بغلام زكي، هو عيسى عليه السلام. تعجبت مريم وقالت: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، فأجابها جبريل أن الأمر بيد الله، فهو يخلق ما يشاء بكلمة “كن فيكون”.
لحظة الميلاد العجيبة
كانت لحظة حمل مريم وولادتها من أعظم الابتلاءات التي واجهتها. فقد ابتعدت عن قومها لتضع مولودها وحدها تحت جذع نخلة، في مشهد مفعم بالوحدة والخوف والضعف البشري. وفي تلك اللحظة، تجلّت رحمة الله، فأجرى لها معجزتين: الأولى أن النخلة اليابسة أخرجت رطبًا طريًا لتأكل منه، والثانية أن نبع الماء فجّر لها لتشرب وتغتسل.
جاءت مريم تحمل رضيعها إلى قومها، فاتهموها بما لا يليق بمكانتها، لكنها لم تجادلهم، بل أشارت إلى المولود، فكانت المفاجأة أن تكلم عيسى عليه السلام في المهد، معلنًا عبوديته لله وبعثته نبيًا: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 30].
مريم.. نموذج الطهر والصبر
قصة مريم لم تكن مجرد رواية لمعجزة، بل هي رسالة متجددة للأجيال. فهي امرأة صبرت على الابتلاء العظيم، وثبتت رغم اتهامات قومها، وسلمت أمرها لله دون اعتراض. علمتنا أن العفة لا تتزعزع أمام الشبهات، وأن الإيمان يُمكّن صاحبه من مواجهة أقسى الظروف.
الدروس المستفادة من قصة مريم عليها السلام
الإخلاص لله منذ النشأة: فقد نشأت مريم على العبادة منذ طفولتها، ما يبرز أهمية تربية الأبناء على الطاعة والإيمان.
قدرة الله المطلقة: ميلاد عيسى بلا أب دليل قاطع على أن أمر الله فوق القوانين الطبيعية.
الصبر عند الابتلاء: مريم مثال للصبر والثبات أمام الابتلاءات والشبهات.
التسليم لقضاء الله: لم تجادل مريم فيما اختاره الله لها، بل رضيت بقضائه.
شرف المرأة بالإيمان لا بالنسب: كُرمت مريم لأنها مؤمنة طاهرة، وليس فقط لأنها من نسل عمران.
مريم في القرآن الكريم
ورد ذكر السيدة مريم عليها السلام في سور عديدة، منها: آل عمران، النساء، المائدة، الأنبياء، التحريم، والأكثر تفصيلًا في سورة “مريم” التي حملت اسمها، تكريمًا لها. لم يُسمَّ أي امرأة أخرى باسمها في القرآن، وهذا دليل على مكانتها العظيمة.
أثر قصة مريم على الإنسانية
قصة مريم لم تؤثر في المسلمين فقط، بل امتدت لتكون محورًا مشتركًا بين الديانات السماوية، حيث يجلّها المسيحيون واليهود أيضًا، لكن التصور الإسلامي قدّمها في أنقى صورة: امرأة صالحة طاهرة عابدة، اصطفاها الله بمعجزة، دون أن تُنسب لها صفات الألوهية أو القداسة المطلقة.
خاتمة
تظل مريم عليها السلام رمزًا خالدًا للطهر والإيمان، وشعلة مضيئة في تاريخ البشرية. قصتها تُعلّمنا أن اليقين بالله هو أعظم زاد، وأن الصبر على البلاء مفتاح الفرج، وأن المعجزات تحدث عندما يشتد البلاء ويعظم الأمل بالله.
فمن أراد أن يقتدي بالثبات والإيمان، فليتأمل قصة هذه السيدة العظيمة التي خلدها القرآن الكريم لتبقى درسًا للأجيال إلى يوم الدين.
✦ موقع: tslia.com
💡 كن مثل مريم.. واثقًا بالله، صابرًا على البلاء، طاهر القلب والنية.