كان يوسف صغيرًا حين بدأ كل شيء برؤيا هزّت قلبه: أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له. رؤيا لا يَحسُن أن تُحدَّث بها كل أذن، فتعليمات الأب يعقوب جاءت واضحة: «لا تقصص رؤياك على إخوتك». منذ السطر الأول من القصة يتعلّم القارئ سرًّا بديعًا: ليست كل النِّعم تُذاع، وبعض البِدايات لا تحميها إلا السِّرية. ومن هنا تتدحرج الحكاية على منحدر الابتلاء: غَيرةٌ تتخثّر في القلوب، مؤامرةٌ تُحاك في غفلة عين، وبئرٌ مظلم ينتظر فتىً نقيًّا يشبه النور.

في البئر تعلّم يوسف لغة الصمت الأعلى: حين لا يراك أحد، يراك الله. هناك ينتهي ضجيج الظلم ويبدأ همس التوكّل؛ لا صديق إلا الدعاء، ولا سند إلا اليقين بأن اليد التي ألقتك تستطيع أن تُخرِجك، لكن بقدرٍ آخر أرحم وأعلى. لم يطل المقام؛ قافلة تمرّ، ودُميةُ قَدَر تُنقذها يدٌ لا تعرف اسمها. غير أن النجاة الأولى كانت مقدّمة لاختبارٍ أعظم.

كبر يوسف في بيتٍ جديد، لكنه ظلّ على عهد القلب الأول. في لحظة فتنته الكبرى—حين اختلط الجمال بالوحدة وغلّقت الأبواب—انحاز لنداء الضمير: «معاذ الله». هنا تتجلّى عبقرية العفّة: ليست تَعَبًا يُنهيه الانزلاق، بل قوّةٌ تصنع الإنسان الذي يصلح لتحمّل التمكين. لقد كان بإمكانه أن يساوم، لكنه اختار السجن على لحظة خيانة للنفس. أيّ درسٍ أعمق من أن تحميك المبادئ حتى وأنت تدفع ثمنها؟

في السجن لم يتقوقع يوسف على جرحه، بل قدّم موهبة التأويل خدمةً ومنبرًا للدعوة الهادئة. هناك تعلّمنا أن أصحاب الرسالات لا ينتظرون منصّةً ليتكلّموا؛ يصنعون منصّتهم من جدار زنزانة، ويغزلون الأمل من خيوط ضوءٍ تتسرّب من نافذة ضيّقة. حين تكلّم يوسف، أقنع بحجّةٍ رصينة، وحين فسّر، أصاب بميزان الحكمة. إننا لا نحتاج سلطةً لنؤثر، بل نحتاج رؤيةً صادقة وثباتًا جميلًا.

ثم جاء الامتحان الثالث: تمكينٌ بعد ضيق. لم يكن يوسف وزيرًا عاديًا؛ كان رجل مشروعٍ كامل: تخطيطٌ للمستقبل، إدارةٌ في زمن الرخاء، وتوزيعٌ رشيدٌ في سنيّ القحط. حين تعاظمت الأزمة، لم يكتفِ بتخزين القمح، بل خزن مع القمح كرامة الناس؛ أقام اقتصادًا يحفظ المعنى، فصار الأمن الغذائي أمنًا للقلوب أيضًا. إن التمكين ليس مقعدًا فخمًا، بل مسؤوليةٌ يثبُت فيها من ربّاه الابتلاء على الدقّة والعدل.

وحين دخل عليه إخوته بعد سنواتٍ ثقيلة، كان يمكن أن ينتقم، لكنه اختار عفوًا يُرمّم ما تكسره الزمن. أيّ بطولةٍ أبلغ من إنقاذك من ظلم الأمس بأخلاق اليوم؟ العفو ليس ضعفًا؛ هو خُلق الأقوياء الذين عرفوا أن حمل الضغائن يُفقر الروح، وأن شفاء الجماعة يبدأ من قلبٍ يغفر. لذلك ختم يوسف قصته بحمدٍ رقيق: اعترف بنِعَم الله عليه، ولم ينسب لنفسه إلا الصِّدق والصبر.

ما الذي نخرج به نحن؟
أولًا: احفظ أسرار أحلامك؛ ليست كل رؤيا تُروى. ثانيًا: حين تُلقى في بئر التجربة، لا تنشغل بمن دفعك بقدر انشغالك بمن سينقذك. ثالثًا: العفّة قرارٌ مبكّرٌ يُهيئك لثقةٍ أكبر؛ كل مرّة تقول فيها «لا» لما يجرحك، أنت تفتح بابًا لـ «نعم» أوسع مما تتخيل. رابعًا: العمل المتقن عبادة؛ خطّة يوسف للسنوات العجاف درسٌ لكل مؤسسةٍ تبحث عن إدارة المخاطر. خامسًا: العفو ترميمٌ للمستقبل، ليس مجرد طيّ صفحةٍ قديمة.

في سيرة يوسف عليه السلام نكتشف أن الجمال ليس في الملامح فقط، بل في اتساع الروح: روحٌ ترى في السجن فرصةً، وفي السلطة أمانة، وفي الخصومة بابًا للصفح. إن طريق «من البئر إلى القصر» ليس مستحيلًا؛ يحتاج قلبًا يعرف وجهته، وعقلًا يحسب خطواته، ولسانًا يلهج: ربِّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فثبّتني.

إذا كنت اليوم على حافة يأسٍ أو في قاع بئرٍ لا يسمعك فيه أحد، فتذكّر هذا الدرس الذهبي: كُن أمينًا على نفسك، وسيصنع الله لك من العتمة نافذةً لا تُغلق. وتذكّر أيضًا أن التمكين الحقيقي يبدأ من الداخل؛ من انتصارك الصغير على رغبةٍ زائفة، ومن إخلاصك في العمل حين لا يراك إلا الله.


للمزيد من القصص الملهمة والتحليلات العميقة التي تُثري إيمانك وتُلهم يومك، زر موقعنا tslia.com. ستجد مقالات حصرية تُكتب بروحٍ إنسانية وبلغةٍ قريبةٍ من القلب، تعينك على فهم القرآن والسير بوعيٍ وهدوء. خُذ دقيقتين الآن وتجوّل بين الأقسام؛ ربما تجد «رؤياك» التي تنتظر التفسير.

يوسفعليهالسلام #قصصالأنبياء #العفة #الصبر #التوكل #العفو #تدبرالقرآن #إلهامإسلامي #قيمإسلامية #السيرةالقرآنية #إدارةالأزمات #إيمان_وعمل #tslia

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *