الخروج العظيم: كيف ربّى موسى عليه السلام جيلاً لا يخاف البحر
حين تُذكر الشجاعة الممزوجة بالرحمة، يتصدر اسم نبيّ الله موسى عليه السلام المشهد. ليس لأنه تحدّى فرعون فحسب، بل لأنه أعاد تشكيل وعي جماعةٍ كاملة علّمتنا معنى التوكّل والعمل في آنٍ واحد. في قصته طبقات من العِبر: قيادةٌ تحت الضغط، تربيةٌ على الصبر، وتحريرٌ يبدأ من الداخل قبل أن يظهر على ضفاف البحر.
وُلد موسى في زمنٍ تُراقَب فيه أنفاس الأطفال خوفًا من بطش السلطة. ومع أول صرخةٍ له، ابتدأ الامتحان: أمّ مؤمنة تُلقي فلذة كبدها في اليمّ، لا تهرّبًا من القدر بل امتثالًا لوعدٍ ربّاني: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾. هنا نلمح أول درس: الإيمان ليس فكرة تُقال، بل خطوةٌ تُؤخذ عند حافة الخوف. ما كان يُظنّ نهايةً صار بداية: كبر موسى في قصر من حاربه لاحقًا، ليتعلّم لغتهم ونظمهم ويقف على مكامن قوّتهم وضعفهم.
كبر الفتى، وعرف قسوة الظلم حين رأى رجلاً من قومه يُستضعف. اندفع ليدفع الأذى فوقع ما وقع، وغادر المدينة “خائفًا يترقّب”. الغربة كانت مدرسةً أخرى: هناك في مدين تعلّم موسى العمل بيديه، سقَى لابنتين دون أن ينتظر شكرًا، ثم استظلَّ تحت شجرة يدعو بدعوة الفقراء: “ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير”. هذا الدعاء ليس كلماتٍ لساعة الشدة، بل إعلان فقرٍ دائم إلى الله؛ به يبدأ الإصلاح من الداخل.
ثم جاء النداء العظيم عند طور سيناء: اذهب إلى فرعون إنه طغى. لم يقل موسى: أنا وحدي. بل قال: واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي. القيادة وعيٌ بالجماعة لا بطولةٌ فردية. وحين دخل على فرعون، دخل بكلمةٍ قبل العصا: فقولا له قولًا لينًا. منطق الرسالة واضح: الحقيقة قوية بذاتها، لا تحتاج إلى صراخ. ومع ذلك، كان لا بدّ من آيةٍ تُسكِت الضجيج، فجاءت العصا واليد، لتقول للناس: إن الذي يملك قوانين الكون هو الذي يدعوكم للعدل.
مشهد البحر ذروة هذه الرحلة. ليس البحر ما انشقّ فجأةً بلا سبب؛ السبب كان أمرًا ربانيًا يتطلب حركة: اضرب بعصاك البحر. شقّ الطريق لم يُمنح لقوم موسى وهم جالسون؛ بدأ حين تحرّكوا إلى الماء. وهنا درسٌ خالد: الأبواب المغلقة تفتح عند أول خطوةٍ شجاعة، لا قبلها. لم يكن الانتصار فقط في غرق فرعون، بل في ولادة “أمةٍ تسير”: قومٌ كانوا أسرى الأمس صاروا أصحاب طريق.
بعد النجاة تبدأ أشقّ مراحل الإصلاح: تنظيف القلوب من رواسب العبودية. طلبوا عجلًا، تاهوا في مطلب الخبز والعدس، اختبرهم التعب والجوع، لكن موسى بقي معلّمًا صبورًا. كان يربّيهم على معنى الشريعة: ليست قيودًا تُثقل السير، بل طريقٌ يحفظ الكرامة. وحين عاد باللوحَين، عاد بمفهومٍ شامل: عبادةٌ تُقيم القلب، وعدلٌ يقيم المجتمع.
في قصة موسى يتجاور العقل والوحي: يسأل ربّه، يستفهم، يطلب توقيتًا، يلتمس رفيقًا. ليست العصمة هنا صمتًا عن السؤال، بل توجيهًا للسؤال أن يكون في طريق المعرفة لا الاعتراض. حتى قصته مع الخضر تكشف أن الحكمة قد تأتيك مخالِفةً لما ألفته عينك، وأن ما يبدو كسرًا لسفينة قد يكون حِفاظًا على سفنٍ كثيرة.
ماذا نتعلّم اليوم؟ أنك قد تُربّى في قلب المنظومة التي ستغيّرها لاحقًا؛ أن الغربة ليست نهاية، بل ورشةُ صقل؛ أن اللين منهجٌ حتى مع فرعون، وأن العصا تُرفع فقط حين تُغلَق كل الأبواب. وأن الطريق إلى “الخروج العظيم” في حياة كل واحدٍ منا يبدأ بقفزةٍ صغيرةٍ على حافة بحر الخوف، مع يقينٍ صافٍ: إن معي ربي سيهدين.
إذا كنت صاحب مشروع، أبًا، معلمًا، أو شابًا يبحث عن بداية، فاقرأ موسى كخريطة: واجه طغيان عادتك بقولٍ لينٍ مع نفسك، وخطوةٍ عمليةٍ نحو الهدف. خُذ بالأسباب، استعن بمن تثق، وامشِ إلى البحر. ستتشقّق لك الطرق حين تُطابقُ قدمُك أمرَ الله.
في النهاية، ليس التاريخ سردًا لما كان، بل وقودًا لما سيكون. وموسى عليه السلام ليس حكايةً تُروى لتهدأ النفوس، بل نداءٌ يتردّد: “قُم الآن، وابدأ الخروج من قيودك”.
—
لو أعجبتك هذه المقالة وتبحث عن مزيد من القصص الملهمة والمعارف الأصيلة، زر موقعنا tslia.com الآن، ستجد ما يفتح بصيرتك ويقوّي قلبك. ابدأ رحلتك مع المعرفة اليوم وشارك من تحب، فكل نقرة تقرّبك من أثرٍ طيّب.